فصل: الطرف الخامس فيما كان عليه الأمر في الدولة الفاطمية بالديار المصرية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.الطرف الرابع فيما كان يكتب عن مدعي الخلافة ببلاد المغرب والأندلس:

وكانوا يعبرون عما يكتب من ذلك بالظهائر والصكوك: فالظهائر جمع ظهير، وهو المعين، سمي مرسوم الخليفة أو السلطان ظهيراً لما يقع به من المعاونة لمن كتب له. والصكوك جمع صكٍ وهو الكتاب، قال الجوهري: وهو فارسي معربٌ والجمع أصكٌ وصكاك وصكوك؛ ثم تحامى المتأخرون منهم لفظ الصك، لما جرى به عرف العامة من غلبة استعماله في أحد معنيي الاشتراك فيه وهو الصفع، واقتصروا على استعمال لفظ الظهير.
ولذلك حالتان:
الحالة الأولى: ما كان الأمر عليه في الزمن القديم:
واعلم أنه لم يكن لهم مصطلح يقفون عند حده في الابتداءات، بل بحسب ما تقتضيه قريحة الكتاب؛ فتارةً يبتدأ بلفظ: من فلان إلى فلان أو من فلان إلى أهل فلانة أو إلى الأشياخ بفلانة أو يصلكم فلانٌ بهذا الكتاب. وتارة يبتدأ بأما بعد حمد الله. وتارةً يبتدأ بلفظ تقدم فلان بكذا. وتارة يبتدأ بلفظ مكتوبنا هذا وغير ذلك مما لا ينحصر.
فمن الظهائر المكتتبة لأرباب السيوف عندهم، ما كتب به بولاية ناحيةٍ، وهي: من فلانٍ إلى أهل فلانة أدام الله لهم من الكرامة أتمها ومن الرعاية أوفاها، وأسبغ عليهم برود نعمه الجزيلة وأصفاها.
أما بعد حمد الله ميسر أسباب النجاح، ومسني مرام الرشاد والصلاح، والصلاة على سيدنا محمدٍ رسوله نبي الرحمة والرفق والإسجاح، وعلى آله وصحبه المتصفين بالقوة في ذات الله تارةً وتارةً بخفض الجناح، والرضا عن الخليفة أمير المؤمنين ذي الشرف الذي لم يزل بالهدى النبوي متوقد المصباح، والدعاء للمقام الإماري بالنصر الذي يؤتي مقاليد الافتتاح، والتأييد الماضي حد رعبه حيث لا يمضي غرار المهند وشبا الرماح، فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم سكون الأرجاء وهدوها، وأجرى لكم بالصلاح رواح الأيام وغدوها- من فلانة وللدولة العلية بركاتٌ تكاثر السحب في انسكابها وانسجامها، وتقود الخيرات والمسرات في كل أوبٍ بزمامها، والحمد لله حمداً يقضي بوفور جزيلات النعم وجسامها.
وإن الاهتمام بكم لمستبقٌ على كل غرضٍ جميل، ومقدمٌ فيما يحظيكم بكل بغية وتأميل؛ وبحسب هذا لا يزال يختار لكم من الولاة كل مختار منتخب، ولا يقدم عليكم إلا من ينتهي إلى أثيل حسبٍ وكريم منتسب، ولا يزال يدأول موضعكم بين كل طريقةٍ تتصل من حسن السير وسداد النظر بأمتن سبب؛ وعلى هذا الأصل استخرنا الله وهو المستخار، والذي يقضي ما يشاء ويختار، في أن قدمنا عليكم، وولينا للنظر فيما لديكم، من له التقدم في الإقدام، والاضطلاع الثابت الأقدام؛ وذلك فلان؛ وآثرنا كم به اعتناءً بجانبكم واهتبالاً، وخصصناكم منه بمن يفسح في كل أثر حميدٍ مجالاً، والمعتقد فيه أن يعمل على شاكلته بنباهة مكانه، وأن يبذل في الانتهاض والاكتفاء غاية وسعه وإمكانه؛ وعليه أن يلازم تقوى الله العظيم في سره وعلنه، ويجري على سبيل العدل وسننه، ويشمر عن ساعده في الدفاع عن أحوازكم كل التشمير، ويأخذ على أيدي أهل التعدي أخذاً يقضي على الفساد وأهله بالتتبير، ويقصد بكم سديد السعي ورشيد الرأي في الدقيق والجليل والصغير والكبير، ويسوي في الحق بين الحافل والتافه والغني والفقير، وعليكم أن تسمعوا وتطيعوا، ولا تهملوا حق الامتثال والائتمار ولا تضيعوا، وأن تكونوا يده التي تبطش، وأعوانه فيما يحأول من مستوفي المساعي المرضية ومستوعبها، وأن تتعاونوا على التقوى والبر، وتقفوا له عند النهي والأمر، وتجتهدوا معه في مصالحكم كل الاجتهاد، وتعتمدوا على ما رسمناه لكم أتم الاعتماد، وستجدون من مواليكم- إن شاء الله- ما يوافق الظن به، ويلائم العمل بحسب حسبه؛ إن شاء الله تعالى والسلام.
ومنها ما كتب به في ولاية ناحيةٍ أيضاً، وهي: من فلان إلى أهل فلانة أدام الله تعالى كرامتهم بتقواه، وعرفهم أحق النظر بمصالحهم وأحراه.
وبعد، فإنا كتبناه لكم- كتب الله لكم أحوالاً متصلة الصلاح، حميدة الاختتام والافتتاح- من فلانة، ونعم الله سبحانه موفورة الأقسام، صيبة الغمام؛ وقد اقتضى ما نتوخاه من الاحتياط على جوانبكم، ونعتمده من الإيثار لكم والاعتناء بكم، أن نتخير للتقديم عليكم من نعلم منه الأحوال المرضية حقيقة، ونحمد سيره فيما يحأوله وطريقه.
ولما كان فلان ممن حمدت مقاصده، وشكرت في المحاولات الاجتهادية عوائده، وحسنت فيما نصرفه فيه مصادره وموارده، رأينا- والله القاضي فيما نذره ونأتيه، بالتوفيق الذي يكون به انقياد النجح وتأتيه- أن نقدمه لحفظ جهاتكم، وتأمين أرجائكم وجنباتكم، ووصيناه أن يجتهد فيما قلدناه من ذلك كل الاجتهاد، وينتهض في إذهاب الشر وإرهاب أهل الفساد، وبأن يسلك فيما يتولاه من الأحكام سنن الحق، ويجري على سبيل العدل والرفق، ويدفع أسباب المظالم، وينصف المظلوم من الظالم؛ فإذا وافاكم فتلقوه بنفوس منبسطة، وعقائد على العمل الصالح مرتبطة، وكونوا معه على تمشية الحق يداً واحدة، وفئةً في ذات الله متعاونةً متعاضدة، بحول الله سبحانه.
ومنها ما كتب به بإعادة والٍ إلى ناحيةٍ، وهي: وإنا كتبناه إليكم- كتبكم الله من المتعاونين على البر والتقوى، وأعلقكم من طاعته بالحبل الأمتن الأقوى- من فلانة: والذي نوصيكم به تقوى الله تعالى والعمل بطاعته، والاستعانة به والتوكل عليه؛ وقد صرفنا إليكم فلاناً بعد أن أقام هنا شاهداً مشاهد للتعلم نافعة، مباشراً من المذاكرة في الكتاب والسنة مجالس ضامنةً لخير الدنيا والآخرة جامعة، مطالعاً لأحوال الموحدين أعزهم الله في مآخذهم الدينية، ومقاصدهم المحيية لما درس من الملة الحنيفية، فنال بذلك كله خيراً كثيراً، وأحرز به حظاً من السعادة كبيراً، وظفر منه بما يكون له في كل ما ينظر فيه سراجاً منيراً، وقد أعدناه إلى الشغل الذي كان يتولاه لجهتكم حرسها الله، ووصيناه بتقوى الله تعالى الذي لا يطلع على السرائر سواه، وأن يكون بما شاهده مما تقدم ذكره مقتدياً، وبأنواره الساطعة التي لا يضل من اهتدى بها مهتدياً، ولا يستند في شيءٍ من أحكامه إلى من لا يقوم على عصمته دليل، ولا جعل إليه تحريمٌ ولا تحليل؛ فأعينوه- وفقكم الله- على تمشية هذه المقاصد الكريمة أكرم إعانة، واسلكوا من مظاهرته على الحق وموازرته على المسالك التي تستبين هنالكم أتم استبانة، إن شاء الله تعالى.
ومن الظهائر المكتتبة بالوظائف الدينية ما كتب به في ولاية قاض، وهو:
أما بعد حمد الله رافع علم الحق لمن اهتدى، وواضع ميزان القسط بالشريعة المحمدية الآخذة بالحجز عن مهاوي الردى، ومؤيد الدين الحنيفي بمن ارتضى لتحديد حدوده وتجديد عهوده وهدى، والصلاة على سيدنا محمدٍ نبيه الكريم الذي أرسله إلى الناس كافة غير مستثنٍ عليه من الخلق أحداً، وعلى آله وصحبه الذين سلكوا في نصره وإظهار أمره جدداً، والرضا عن الخليفة أمير المؤمنين العباسي الأطيب عنصراً ومحتداً، فإنا كتبناه إليكم- كتبكم الله ممن اعتز بطاعته وتقواه، واعتصم من حبله المتين بأوثقه وأقواه- من فلانة، وفضل الله سبحانه مديد الظلال، وتوكلنا عليه- عز وجهه- ظهيرنا المعتمد به في كل حال، وعمادنا الذي نقدمه فيما ندبره من الأعمال؛ وإنكم من عنايتنا، وموصول رعايتنا، لبالمحل الأدنى، ومن خاص نظرنا واهتمامنا لمن نكلف بشأنه كل ونعنى، ونعتمد من ذلك بالأحسن فالأحسن فجزاء الذين أحسنوا الحسنى.
وقد علمتم- وصل الله كرامتكم- أن الأحكام الشرعية هي ملاك الأمور ونظامها، وعليها مدار الأعمال الدينية وبها تمامها، وأنه لا يصلح لها إلا من تجرد عن هواه، وآثر الحق على ما سواه، واتبع حكم نبيه- عليه السلام- في كل ما عمله ونواه، وتجمل بالدراية وحمل الرواية فكانتا أظهر حلاه، واتسم بالعدل والاعتدال فيما وليه من ذلك أو تولاه، وكان ممن أطلق الحق لسانه وقيد الورع يمناه؛ وقد أمعنا النظر فيمن له من هذه الأوصاف أوفى نصيب، ومن إن رمى عن قوس نظره الموفق كان سهمه المسدد مصيب: لنخصكم به قاضياً في هذه الأحكام، ونقدمه للفصل بينكم في القضايا الشرعية حكماً من صالحي الحكام، فرأينا أهلاً لذلكم ومحلاً من اختبرت على النهج القويم أحواله، وارتضيت فيما نيط به من ذلك أعماله وأقواله، وشهد له الاختبار بالانكفاف عن كل سابق وغائب، وعن ارتكاب الثنيات إلى السنن اللاحب، وذلكم فلان أدام الله كرامته وتوفيقه، ويسر إلى مسالك النجاة مسلكه وطريقه، فأنفذناه إليكم حكماً مرضي لما لديه من استقامة الأحوال عن الوصايا ما خلا التذكير والتنبيه، والوصية بتقوى الله فهي التي تعصم العامل بها وتنجيه، فقد وصى بها الله من اختاره من خلقه لإقامة حقه وارتضاه، فقال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ منْ قَبْلِكُمْ وإيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا الله}. فتلقوه- أدام الله كرامتكم- بنفوس منبسطة، وقلوبٍ مبتهجة مغتبطة، وأهواءٍ على التظافر والتناصر في الحق مجتمعةٍ مرتبطة؛ وتعاونوا في ذات الله على الطاعة، وكونوا في سبيل الله يداً واحدةً فيد الله مع الجماعة، واستعينوه سبحانه يتولاكم بالحفظ الشامل، ويستعملكم من طاعته وسلوك سبل مرضاته بأنجى ما استعمل به عامل؛ والسلام.
ومنها ما كتب به أبو الحسن الرعيني في ولاية قاضٍ، وهي: من فلانٍ إلى الأشياخ بفلانة أدام الله كرامتهم بتقواه، واستعملهم فيما يحبه ويرضاه.
أما بعد، فإنا كتبناه إليكم- كتب الله لكم حسناه، وأوزعكم شكر ما خولكم من نعماه ورحماه؛ ومن مقاصد هذا الأمر العزيز- أدامه الله- ما يعلي يد الحق ويسميها ويسدد سهام العدل إلى أغراضها ومراميها، ويتكفل بالجزاء لمن لاذ بأكناف الطاعة ونواحيها، والحمد لله على نعمه التي لا نحصرها ولا نحصيها.
وإلى ذلكم فإن فلاناً لما تمكنت الثقة بجميل صفته، واستنامت البصيرة إلى استحكام سنه ومعرفته، وقد كان تقدم له من خدمة المر وأوليائه ما نجده مع الأيام وخرجه، وخصصه من كريم الاستعمال بما استدناه إلى مراقي الذكاء واستدرجه، رأينا- والله المستعان- أن نقدمه للنظر في قضاياكم الدينية، وأحكامكم الشرعية، بعد أن وصيناه بتقوى الله فقدمها، وعرضنا عليه ما يعلمه ويلزمه من شروط الحكومة فالتزمها؛ فلينهض إلى ما قدمناه على بركة الله تعالى مشمراً عن ساعد الحزم، آخذاً في كافة أموره بما يأخذه أولو العزم، جارياً على السنن الواضح المعروف، مسوياً في الحق بين النبيه والخامل والشريف والمشروف، محتسباً على إقامة فروض الدين أكرم احتساب، مكتسباً من الأجر في ردع الظلم والباطل أفضل اكتساب، راجياً في تمشية العدل على رغمٍ من أباه ما يرجو المؤمن المحقق من زلفى وحسن مآب، ولدينا من عقده على ذلك ما يحسن مقصده، ويمكن في بسطة الحق مقعده؛ فإذا وافاكم فاستبشروا بموافاته، وقفوا عند ما يمضيه من لوازم الشرع وموجباته، وتعاونوا على الخير تعاوناً يجزل حظكم من فضل الله وبركاته؛ فهو المؤمل في ذلك لا رب سواه.
ومن الظهائر المكتتبة بالوظائف الديوانية ما كتب به أبو المطرف بن عميرة بولاية وزارةٍ وهو: مكتوبنا هذا بيد فلان أدام الله علاءه، وحفظ عنايته وغناءه، يجد به مكان العزة مكيناً، ومورد الكرامة عذباً معيناً، وسبيل الحرمة المتأكدة واضحاً مستبيناً، ويتقلد وزارتنا تقلد تفويضٍ وإطلاق، ويلبس ما خلع عليه منها لبسة تمكن واستحقاق، وينزل من رتبتها العليا منزلةً شرفها ثابتُ وحماها باق، ويسوغ الدار المخزنية التي يسكنها بفلانة تسويغاً يملكه إياها أصح تمليك، ويفرد فيها من غير تشريك، إن شاء الله تعالى والسلام.
ومنها ما كتب به أبو عبد الله بن الأبار في مشارفة ناحيةٍ، وهو: عن إذن فلان، يتقدم فلان للنظر في الأشغار المخزنية بفلانة، موفياً ما يجب عليه من الاجتهاد والتشمير، والجد الذي ارتسم في الإنماء والتثمير، مصدقاً ما قدر فيه من الانتهاض والاستقلال، وقرر عنه من الأمانة التي رشحته وأهلته لأنبه الأعمال، جارياً في ضبط الأمور المخزنية والرفق بجانب الرعية على المقاصد الجليلة والمذاهب المرضية في عامة الشؤون والأحوال، عاملاً بما تقدمت به الوصية إليه، وتأكدت الإشارة به عليه، من تقوى الله في السر والعلن، علماً أن المرء بما قدمته يداه مرتهن.
ومنها ما كتب به المذكور بإعادة مشارف إلى ناحيةٍ، وهو: يعاد بهذا المكتوب فلانٌ إلى خطة الإشراف بفلانة: رافلاً من ملابس التكرمة والحظوة في شفوفها، مخلى بينه وبين النظر في ضروب الأشغال المخزنية وصنوفها، فهو المعروف بالكفاية والاجتهاد، الموصوف بحسن الإصدار والإيراد؛ وأولى الناس بالتزام النصيحة، والازدياد من بضائع الأعمال الربيحة، من كثرت النعم السلطانية لديه، ودفع إلى الخطط ودفعت إليه، فليتقلد هذه الخطة بحقها من الانتهاض والتشمير، وتأدية الأمانة بالإنماء والتثمير، وليتزود تقوى الله تعالى ليوم يسأل عن النقير والقطمير، جارياً في أموره كلها على الطريقة السوية، جامعاً بين الاحتياط للمخزن والرفق بالرعية، غير عادلٍ في حالٍ من الأحوال وفنٍ من فنون الأعمال عن مقتضى هذه الوصية، إن شاء الله تعالى.

.الطرف الخامس فيما كان عليه الأمر في الدولة الفاطمية بالديار المصرية:

وقد تقدم في الكلام على ترتيب المملكة أنه كان بها من وظائف أرباب السيوف الوزارة إذا كان الوزير صاحب سيف، والنظر في المظالم، وزم الأقارب، ونقابة العلويين، وزم الرجال والطوائف: كالأموية، والحافظية، والأفضلية، وغيرهم ممن تقدم ذكره في ترتيب دولتهم، وولاية الشرطة، وولاية المعاون والأحداث، وولاية الحماية، وولاية حفظ الثغور، والإمارة على الحج، والإمارة على الجهاد، وولاية الأعمال، وغير ذلك. ومن الوظائف قضاء القضاة، والدعوة إلى مذهبهم: والنظر في الأوقاف والأحباس، والنظر في المساجد وأمر الصلاة، وغير ذلك.
وكانت كتابة ما يكتب لديهم لأرباب الولايات على نوعين:
النوع الأول: ما كان يكتب به عن الخليفة نفسه:
وكان من شأنهم أنهم يتعرضون في أثناء الولاية لإشارة الوزير بتولية المولى وثنائه عليه، وربما أهملوا ذلك، وكانوا يسمون جميع ما يكتب من ديوان الإنشاء سجلات، وربما سموه عهوداً؛ وعليه يدل ما كتبه العاضد آخر خلفائهم في طرة سجل السلطان صلاح الدين بالوزارة: هذا عهدً لا عهد لوزيرٍ بمثله على ما تقدم ذكره في الكلام على عهود الملوك.
ولهم فيها أربعة مذاهب:
المذهب الأول: أن يفتتح ما يكتب في الولاية بالتصدير:
وهو من عبد الله ووليه فلانٍ أبي فلان الإمام الفلاني أمير المؤمنين، إلى فلان بن فلان بالألقاب المنعوت بها من ديوان الخلافة، ويدعى له بدعوتين أو ثلاثٍ، ثم يقال: سلامٌ عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويؤتى من وصف الخليفة ومدحه بما يناسب المقام.
ثم هو بعد ذلك على ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: أن يقال بعد التصدير المقدم أما بعد فالحمد لله:
ويؤتى من التحميد بما يناسب تلك الولاية، ثم يؤتى بتحميدةٍ ثانيةٍ وثالثة، وتكون الثالثة متعلقةً بالنعم الشاملة لأمير المؤمنين، ثم يقال: وإن أمير المؤمنين لما اختصه الله به من كذا وكذا ويذكر ما سنح من أوصاف الخليفة، ويذكر أنه تصفح الناس وسبرهم فلم يجد من يصلح لتلك الولاية إلا هو، ويذكر من صفته ما اتفق ذكره، ثم يذكر تفويض الولاية إليه، ويوصيه بما يناسب، ويختم بالدعاء ثم بالسلام مع التفنن في العبارة، واختلاف المعاني والألفاظ، والتقديم والتأخير بحسب ما تقتضيه حال المنشئ، وتؤدي إليه قريحته.
وهي على ضربين:
الضرب الأول سجلات أرباب السيوف وعلى ذلك كتب سجلات وزرائهم أصحاب السيوف القائمين مقام السلاطين الآن، من لدن وزارة أمير الجيوش بدرٍ الجمالي وزير المستنصر: خامس خلفائهم وإلى انقراض دولتهم. وقد تقدم منها ذكر عهدي المنصور: أسد الدين شيركوه بن شادي، ثم ابن أخيه الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بالوزارة عن العاضد في جملة عهود الخلفاء والملوك، حيث أشار في التعريف إلى عدهما من جملة عهود الملوك.
ومن أحسنها وصفاً، وأبهجها لفظاً، وأدقها معنى، ما كتب به الموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء عن العاضد المتقدم ذكره، بالوزارة لشاور السعدي، بعد أن غلبه ضرغام عليها ثم كانت له الكرة عليه. وهذه نسخته: من عبد الله ووليه عبد الله أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى السيد الأجل، سلطان الجيوش، ناصر الإسلام، سيف الإمام، شرف الأنام، عمدة الدين؛ أبي فلان فلان.
سلامٌ عليك: فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ خاتم النبيين، وإمام المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين؛ وسلم تسليماً.
أما بعد، فالحمد لله مانح الرغائب، ومنيلها، وكاشف المصاعب، ومزيلها، ومذل كل عصبة كلفت بالغدر والشقاق ومذيلها، ناصر من بغي عليه، وعاكس كيد الكائد إذا فوق سهمه إليه، وراد الحقوق إلى أربابها، ومرتجع المراتب إلى من هو أجدر برقيها وأولى بها، ومسني الخير بتيسير أسبابه، ومسهل الرتب بتمهيد طرقه وفتح أبوابه، ومدني نائي الحظ بعد نفوره واغترابه، ومطلع الشمس بعد المغيب، ومتدارك الخطب إذا أعضل بالفرج القريب، مبدع ما كان ويكون، ومسبب الحركة والسكون؛ محسن التدبير، ومسهل التعسير: {قُلِ اللَّهُمَّ مالكَ المُلْك تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بيَدِكَ الخَيْرُ إنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}.
والحمد لله الذي اختص أولياء أمير المؤمنين الأبرار بالاستعلاء والظهور، وذلل لهم جوامح الخطوب ومصاعب الأمور، وآتاهم من التأييد كل بديع مستغرب، وأنالهم من كل غريبٍ إذا أورد قصصه أطرب، ومكنهم من نواصي الأعداء، وشملهم بعناياته في الإعادة والإبداء، وضمن لهم أحمد العواقب، وأرشدهم إلى الأفعال التي ثبتت لهم في صحائف الأيام أفضل المناقب، وهداهم بأمير المؤمنين إلى ما راق زلاله، وتم غاية التمام كما أنه كان لرضا الله سبحانه وحسن ثوابه مآله، ويمدهم في المجاهدة عن دولته بالتأييد والتمكين، ويحظيهم من أنوار اليقين، بما يجلو عن أفئدتهم دجى الشك البهيم، ويظهر لأفهامهم خصائص الإمامة في حلل التفخيم والتعظيم، ويريهم أن خلوص الطاعة منجاةٌ في المعاد بتقدير العزيز العليم.
والحمد لله الذي استثمر من دوخة النبوة الأئمة الهادين، وأقامهم أعلاماً مرعدةً في محجة الدين، وبين بتبصيرهم الحقائق وورث أمير المؤمنين شرف مقاماتهم، وجعله محرز غاياتهم، وجامع معجزاتهم وآياتهم، وقضى لمن التحف بظل فنائه، واشتمل بسابغ نعمه وآلائه، وتمسك بطاعته واعتصم بولائه، بالخلود في النعيم المقيم، والحلول في مقام رضوانٍ كريم: {ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ والله ذُو الفَضْل العَظِيم}.
يحمده أمير المؤمنين على نعمه التي جعلته للبشر إماماً، وأمضت له في المشارق والمغارب أوامر وأحكاماً، وجرد من عزمه في حياطة دين الله عضباً مرهفاً حساماً، واستخلص لإنجاد دولته من أوليائها أكملهم شجاعةً وإقداماً، وأحسنهم في تدبير أمورها قانوناً ونظاماً، وأتمهم لمصالح أجنادها ورعاياها تفقداً واهتماماً، وأولاهم بأن لا يوجه عليه أحدٌ في حقٍ من حقوق الله ملاماً، وأجدرهم بأن يحل من جميل رأي أمير المؤمنين دار سلام يلقى فيها تحيةً وسلاماً؛ ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ خاتم النبيين الذي أعلن بالتوحيد وجهر، وغلب بالتأييد وقهر، وأظهر المعجز البديع واستطال إعجازه وبهر، وأطلع نور الإسلام واشتهر في المشارق والمغارب إشراقه وظهر، وعلى أخيه وابن عمه أبينا علي بن أبي طالب سيف الله الذي شهره على الكفر وسله، وكفله إعزاز الدين فأعظمه بجهاده وأجله، وقرع بعزه صفاة الإلحاد فأزاله بعزه وأذله، وقصد الأصنام وأرغم من استغواه الشيطان باتباعها وأضله، وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام الدين، وهداة المتقين، وموضحي سبيل الحق لأهل اليقين، وموصلي الأنوار الدينية إلى بصائر المؤمنين، صلاةً تتكرر وتتردد، وتدوم مدى الأيام وتتجدد.
وإن أمير المؤمنين- لما اختصه الله به من المنصب الشريف، وسما به إليه من المحل الشامخ المنيف، وفوضه إليه من تدبير خلقه، وأفرده به من اتباع أمره والقيام بحقه، وناطه به من المحاماة عن الملة الحنيفية، والاجتهاد في أن يشمل أهلها بالحالة السنية والعيشة الهنية، وإعانته في إظهار شعارها، وتأييده في إظهار علوها على الملك واقتدارها- يبذل جهده في الاستعانة بمن تقوم به حجته عند الله بالاعتماد عليه، ويتوثق لنفسه في اختيار من يقوم برضا الله في إسناد الأمور إليه، ويحرص على التفويض لمن يكفي في التدبير، وتحيط غاية نظره بالصغير من رجال الدولة والكبير، تقرباً إلى الله بالعمل فيما ولاه بما يرضيه، وازدلافاً باتباع أمره في كل ما ينفذه ويمضيه. وقد كان أمير المؤمنين تصفح أولياء دولته، وعظماء مملكته وأكابر شيعته وأنصار دعوته، فوجدك أيها السيد الأجل أكملهم فضلاً، وأقلهم مثلاً، وأتمهم في التدبير والسياسة إنصافاً وعدلاً، وأحقهم بأن تكون لكل رياسةٍ وسيادةٍ أهلاً، ففوض إليك في أمور وزارته، وعول عليك في تدبير مملكته وجمع لك النظر فيما وراء سرير خلافته، فجرت الأمور بمقاصدك السعيدة على إيثار أمير المؤمنين وإرادته، واستمر أمر المملكة بمباشرتك على أحسن قانونه وعادته، وشملت الميامن والسعود أتم اشتمالٍ على تفصيله وجملته، وانحسمت الأدواء، وذلت بسطوتك الأعداء، وزالت في أيامك المظالم والاعتداء، وحسنت بأفعالك الأمور، وظهر بك الصلاح وكان قبل وزارتك قليل الظهور، فانبسطت الآمال، واتسقت الأعمال، وأقمع الضلال، وأمنت الأهوال، وخلصت من الرأي السقيم، وحظيت بالملك العقيم، وغدا جندها ورعاياها ببركة رأيك في النعيم المقيم.
فلما رمقتك عين الكمال، وألهب قلوب حسدتك ما أوتيته من تمام الخلال، تكاثر من يحوك المكايد، وتظافر عليك المنافس والمعاند، ورنت إليك إساءة من عاملته بالإحسان، وعدت عليك خيانة من ائتمنته أتم ائتمان، وتم له المراد بوفائك وغدره، وسلامة صدرك ومكره، واتفاق ظاهرك وباطنك ومباينة سره لجهره؛ فكان ما هونه في نفسه سلامة لنفس وأكبر الولد، ومنح في إسداده نعماً لا تنحصر بعدد؛ وأفظع ما كان فيه ما أصيب به ولدك الأكبر رضي الله عنه الذي أصيب وهو مظلوم، ولو لم يصب لم يمتنع من الأجل المحتوم؛ فربحت بما نالك ثواباً، واستفتح لك الحظ من النصر على الباغي باباً، واغتصب الغادر ما لا يستحق، ورآه أمير المؤمنين بصورة المبطل ورآك بصورة المحق، وهدتك السعادة إلى العمل بسيرة الأنبياء في الانحياز عن الأعداء، والتباعد عن أهل الغي والاعتداء، فانسللت من الغواة انسلال الصارم من غمده، وتواريت من العتاة تواري النار في زنده، وقطعت المفاوز مصاحباً للعفر والعين، حتى حللت بربوةٍ ذات قرارٍ ومعين؛ وإن أمير المؤمنين يمدك في ذلك بدعائه، ويعدك لتدبير دولته وقمع أعدائه، ورآك وإن أبعدتك الضرورات عن بابه، وأناتك الحادثات عن جنابه، أنك وزيره المكين، وخالصته القوي الأمين، الذي لا ينزع عنه شمس وزارته، ولا يؤثر له غير سلطانه ومملكته.
ولما وجهت إلى أعمال أمير المؤمنين بمن استصحبته راجياً من عدوك الانتصار، قاصداً إدراك الثار، وحللت بعقوته، وخيمت في جهته، فاتصلت بينكم الحروب، وعز على كلٍ منكما نيل المطلوب- أنجدك أمير المؤمنين عند علمه ببلوغ الكتاب أجله، واستيفاء الوقت المحدود مهله، بإظهار ميله إليك وميله عن ضدك، وأن قصده مباينٌ لقصد المذكور موافقٌ لقصدك، فسبب ذا نصرك وخذلانه، وتقويتك وإيهانه؛ ولأمير المؤمنين في حالة عناية تسعدك، ورعايةٌ تؤيدك.
فحين عدت إلى بابه عود الشموس إلى مشارقها قبلك أحسن قبول، وتلقاك بتبليغ السول، وكشف الغطاء عما كان يسره إليك ويضمره، ويريده بك ويؤثره، وجدد لك ما كنت تنظر فيه من الوزارة، ومباشرة ما كان مردوداً إليك من السفارة والظهارة: لأنك أوحد ملوك العصر كمالاً، وأوسعهم في حسن التدبير مجالاً، وأشرفهم شيماً بديعةً وخلالاً، وأصلحهم آثاراً وأعمالاً، وأتمهم سعادةً وإقبالاً، وأكثرهم تقيةً لله تعالى؛ وما زلت للمفاخر جامعاً، ولراية المجد رافعاً، ولذى العلاء والسناء فارعاً، تزدان العصور بعصرك، وتتجمل الدنيا ببقاء نهيك وأمرك، وتتعجب الأفلاك العلية من سعة صدرك، وتتضاءل الأقدار السامية لعظيم قدرك؛ وكم لك من منقبةٍ تجل أن يكيفها بديع الأقوال، وتعظم أن يتمناها بديع الأقوال؛ فالدولة العلوية بتدبيرك مختالةٌ زاهية، وأركان أعدائها وأضدادها بحزمك وعزمك واهية، وسعادات من تضمه وتشتمل عليه متضاعفةٌ غير منقطعةٍ ولا متناهية، ولم تزل للإسلام سيفاً قاطعاً ماضياً، وعلى الإلحاد سيفاً مرهفاً قاضياً، تذود الشرك عن التوحيد، وتصد الكفر عن الإيمان فيحيد مرغماً ويبيد؛ وكم لك في خدمة أئمة الهدى من مأثرة تؤثر فتبهج ويورد ذكرها فيغري بالثناء عليك ويلهج، وتبذلك في طاعتهم النفس والولد، وتنتهي في مناصحتهم إلى الأمد الذي ليس بعده أمد؛ فلذلك فزت بدعواتهم التي أعقبتك حسن العواقب، وأحلتك المحل الذي لا تسموا إلى رقيه النجوم الثواقب؛ فإذا رفعك أمير المؤمنين إلى منزلةٍ سأمية، وجد محلك لديه عنها يجل ويسمو، وإذا خصك بفضيلةٍ ما، صادف استحقاقك عنها يرتفع ويعلو، وإذا استشف خصائصك، وجدها بديعة الكمال، يمتنع أن يدرك مثلها بحرص ساعٍ أو ينال؛ وقد توافقت الخواطر على أنك أوحد وزراء الدولة العلوية ظفراً ونظراً، وأحسنهم في طاعتها ومخالصتها أثراً، وأفضلهم خبراً وأطيبهم خبراً؛ وقد جدد لك أمير المؤمنين اصطفاءك لوزارته، واجتباءك لتدبير مملكته، وجعلك الفرد المشار لك في دولته.
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه المهمات الجسام، وتسنم ما وطده لك من هذه الرتب العظام، وتلق آلاءه بما يثبتك في جرائد الأبرار، ويمنحك مصاحبة التوفيق في الإيراد والإصدار، وباشر ما ناط إليك من كبير الأمور وصغيرها، وجليل الأحوال وحقيرها، وابسط يدك في تدبير دولته، وأنفذ أوامرك في أرجاء مملكته، واعن بما جعله لك من تدبير جيوشه الميامين وأوليائه المتقين، وكفالة قضاة المسلمين وهداية دعاة المؤمنين، ورب أحوال جنوده ورعاياه أجمعين، واعمل في ذلك بتقوى الله الذي ما برحت لك دأباً وطريقة، وشيمة وخليقة، وبها النجاة من النار، والسلامة في دار القرار، والفوز بمعنى الخلاص، في يوم المناقشة والقصاص؛ فالعارف من مهد بها مقامه في الآخرة تمهيداً، وأحرز بها من الثواب في الآخرة مزيداً، بقول الله في الكتاب الذي جعله في الإعجاز فريداً: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}.
وراقب الله فيما ألقاه إليك فقد فوض إليك مقاليد البسط والقبض، والرفع والخفض، والولاية والعزل، والقطع والوصل، والتولية والتصريف والصرف، والإمضاء والوقف، والغض والتنبيه، والإخماء والتنويه، والإعزاز والإذلال، والإساءة والإجمال، والإبداء والإعادة، والنقص والزيادة، والإنعام والإرغام، وكل ما تحدثه تصاريف الأيام، وتقتضيه مطالب الأنام؛ فهو إليك مردود، وفيما عدق بنظرك معدود.
وأما العدل ومد رواقه، وإقامة مواسمه وأسواقه، والإنصاف واتباع محجته، والاعتماد على أحكامه وأقضيته، وكف عوادي الجور والمظالم، وحمل الأمر على قصد التصاحب والتسالم، وإظهار شعار الدين، في إنصاف المتداعين إلى الشرع المتحاكمين، والدعوة الهادية وفتح أبوابها للمستجيبين، وإعزاز من يتمسك بها من كافة المؤمنين، والأموال والنظر فيها، والأعمال أقاصيها وأدانيها، فكل ذلك محررٌ في تقليد وزارتك الأول، وأنت أولى من حافظ على العمل به وأكمل.
وأما أمراء الدولة الأكابر، وصدورها الأماثل، وأمراؤها الأعيان، وأولياؤها الذين بسيوفهم تقام دعائم الإيمان، فأنت شفيعهم في كل مكان، ومعينهم الذي يبذل جهده بغاية الإمكان، والجاهد لهم في النفع والصلاح، والحريص على دفع ما يلم بكلٍ منهم من الضرر والاجتياح؛ وما زلت لهم في الأغراض بحضرة أمير المؤمنين مساعداً، وعلى ما يبلغهم الآراب حريصاً جاهداً، وتخصهم دائماً بعنايتك، وتمدهم برعايتك، وتعمل لهم في الحاجات صائب رأيك؛ فأجرهم على ما ألفوه من الاعتناء والإجمال، وبلغهم من محافظتك نهايات الآمال، فهم أبناء الملاحم، ومصطلو لهب الجمر الجاحم؛ ومصافحوا الصفاح، المرهفة الضروب، وملاعبو الرماح، العاسلة ذات الكعوب، ومعملو العتاق الأعوجية، ومرسلو السهام المريشة المبرية.
وأمير المؤمنين يعلم أنك بفضل فطرتك، وثاقب فطنتك، وما ميزك الله به من قديم حنكتك وتجربتك، تغنى عن الوصايا، وتنزه عن توسيع الشرح في القضايا؛ وإنما أورد لك هذا النزر منها على جهة التيمن بأوامر الأئمة، والتبرك بمراسيم هداة الأمة؛ والله يحقق لأمير المؤمنين فيك الأمل، ويوفقك في خدمته للقول والعمل، ويعينك على إصلاح دولته، واغتنام فرص طاعته، وبذل الجهد والطاقة في مناصحته، والاجتهاد في رفع منار دعوته، ويؤيدك على أعداء مملكته، ويرشدك إلى العمل بما يسبغ عليك لباس نعمته؛ فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه، وانته إلى موجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته، والتحميد.
وعلى ذلك كتب الموفق بن الخلال أيضاً عن العاضد بولاية ابن شاور السعدي نيابة الوزارة عن أبيه، وتفويض الأمور إليه، وهذه نسخته: من عبد الله ووليه بألقاب الخلافة إلى فلان بالنعوت اللائقة به.
سلامٌ عليك إلى آخر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على نحو ما تقدم في سجل الوزارة لأبيه.
أما بعد، فالحمد لله مؤيد الحقائق بأفضل الأنصار، ومعز الممالك بأكمل ذوي النفاذ والاستبصار، وجاعل الولد البار لوالده ركناً وسنداً، والنجل المختار لناجله نجدةً ومدداً، مرتب الممالك على أفضل نظامها، ومرقي الدول إلى المؤثر من إجلالها وإعظامها: ليتضح للمتأملين فضل تأكد الأواصر، ويستبين للناظرين فصل تباين العناصر، إبراماً منه- جل وعز- لأسباب الحكمة، وتوسيعاً لسبيل الحنان والرحمة، وشمولاً لما يتتابع به إحسانه من المن الجسيم {فَضْلاً منَ الله ونِعْمَةً وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
والحمد لله معلي الدرجات ورافعها، ومفيد الأمم ونافعها، ومزيل البأساء ودافعها، ومجيب الدعوات وسامعها، ومضاعف المصالح وجامعها، الذي وقف على الدولة العلوية أحسن السير، وخصها فيمن تؤثر اصطفاءه بمساعدة القدر، ويسر لها رائق التدبير بعد ملابسة الرنق والكدر، وادخر لها من الأصفياء من تشرق الدنيا بأنواره، وتزين الدهور بمحاسن آثاره، وتسمو المفاخر بمفاخره، ويتوالى الثناء على ما ابتكره من المكارم في أول نشئه وآخره، ويتتابع الإحماد لمن يختاره ويجتبيه، وتتضاءل أقدار الملوك إذا ذكر فضله وفضل أبيه، وتسكن النفوس إلى تمام ورعه ودينه، وينطق لسان الإجماع بصحة معتقده ويقينه.
والحمد لله الذي شمل البرايا فضله، وعم الخلائق عدله، وأقرت العقول بأن إليه يرجع الأمر كله.
يحمده أمير المؤمنين على نعمه الظاهرة التي أحظت دولته الظاهرة، بمؤازرة البيت الجليل الشاوري، وأيدت مملكته القاهرة، بمحاماته عن حوزتها بالعضب المرهف والسمهري، ويشكره على مننه التي استخلصت له منه أنصاراً يرهفون في طاعته العزائم، ويحقرون في إرادته العظائم، فيذبون عن حوزته ولا يخافون في ذات الله لومة لائم، ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ الداعي إلى الهدى، والمبعوث إلى الخلائق وهم إذ ذاك سدى، والمناضل في نصرة الإسلام بالأسرة والآل، والمطرح عاجل الدنيا الفانية لآجل المآل، وعلى أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي أقام من دين الله منكر الأود، وقام لنبي الله مقام النجل المرتضى والولد، وقط من طواغيت الكفر شامخ الهام، وأوضح غامض التنزيل بما أفرده الله به من مزايا الإلهام، وعلى الأئمة من ذريتهما أبناء الرسالة والإمامة، والمختصين بإرث بيته المحبو بتظليل الغمامة، والقائمين بنصرة الدين، والمتفردين بإمرة المؤمنين.
وإن أمير المؤمنين لما أقامه الله له من تمكين قواعد الدين، واختاره لإيضاحه من إرشاد فرق المسلمين، وأفضى به إليه من سر الإمامة المكنون، وألقاه إليه من خفايا الإلهام الذي تستنبط من أنوارها علة ما كان ويكون، وأمده من التأييد الذي يستأصل طواغيت النفاق بقوارع المهالك، ويسلك بمردة أهل العناد أوعر السبل والمسالك، وأنجده في كل الحالات بالألطاف الخفية التي تتكفل بإعلاء كلمته، وتتضمن نصر أعلامه ونشر دعوته، وآتاه جوامع المعارف والحكم، وفرض طاعته على من دان بالتوحيد من جميع الأمم، وألزم مقاصده وأنحاءه التوفيق، وأوجب لها السعادة في كل جليلٍ ودقيق، يفوض أمره إلى الخالق، ويفيض جوده وبره في الخلائق؛ فلا يزال لأحوال دولته مراقباً، ولا ينفك يفيد كل ما يتعلق بها نظراً ثاقباً؛ فإذا لاحت له لائحة صلاح، أو بدت لنظره مخيلة نجاح، اجتهد في توسيع مجالها، وحرض على حثها وقصد إعجالها، والتمس للدولة اجتلابها، وفتح إلى استدعاء النفع بابها: لينمى الخير العميم، في دولته، ويتضاعف النفع الجسيم، لرعيته، وتكون كافة الخلق فيها بالأمنة والسكون مغمورين، وبحسن صنيع الله بهم فرحين مسرورين.
ولما تصفع أمير المؤمنين أحوال دولته، وتأملها تأمل من يؤثر أن يفقه الفحص في كل مهم على حقيقته، رأى أن الله جل وعلا قد منح أمير المؤمنين من خالصته وصفيه، ووزيره وكافيه ووليه، السيد الأجل بالنعوت والدعاء الذي قام بنصرته، وكفل أهوال الحروب بنفسه وأولاده وأسرته، وحالف التغرب والأسفار، واستبدل من لين العيش بملاقاة السهام واللهاذم والشفار، واتخذ ظهور الجياد عوضاً من الحشايا، ومنازلة الأبطال دأباً في الحنادس والبكر والعشايا، وآثر على لبس الغض المونق الجديد، لباس اليلب ولأمات الحديد، ولازم في ذات الله قرع أبواب الحتوف، والتهجم على كل مخشي مخوف، حتى ذلل الأعداء، وقمع الاعتداء، وحسم الأدواء، وألزم الدهر بعد خطئه الاستهواء، وأفاد دولة أمير المؤمنين باجتهاده عزاً، وادخر لها عند الله من الأجر والمثوبة كنزاً، وسير عنها في الآفاق أحسن الأحاديث، وبين فضلها على غيرها في القديم من الدهر والحديث، وأخلص لأمير المؤمنين في الطاعة حتى استخدم الموالي الموافق، والمباين المنافق، وكمل فضائله التي لا تحد، ومحاسنه التي لا تنحصر ولا تعد، بفضيلةٍ تفوت الفضائل، ومنقبة تفوق بفخرها المناقب الجلائل: وهي ما وجهه الله له من بنوة الأجل فلان الذي لم يزل للدولة عزاً حاضراً، وولياً ناصراً، وعوناً قاهراً، ومجداً ظاهراً، وجمالاً باهراً. وما برح الله- جل وعلا- مراقباً، ولرضاه وغفرانه طالباً، قد جمع إلى كمال الدين وصحة اليقين، المخالصة في طاعة أمير المؤمنين، لا يفتر منذ مدة الطفولية عن درس القرآن، ولا يباري بغير الأمور الدينية نجباء الأقران؛ إن تصفحت محاسنه الدنيوية عد ملكاً مهذباً، وإن تأملت مناقبه الدينية حسب ملكاً مقرباً؛ وكم له من منقبة تستنقص الغيوث، وشجاعة تستجبن الليوث، ومهابةٍ ترد أحاديثها الجيوش على الأعقاب، وتغريها بموالاة الحذر والارتقاب؛ إذا أسهبت الخطوب أوجز تدبيره، وإذا استطالت الحوادث قصر طولها فأعب تقريره؛ فالدولة العلوية من ذبه في الحرم الآمن، والخلافة العاضدية من ملاحظاته في تدبيرٍ يجمع أشتات الميامن؛ فاجتماع المآثر قد وحده، بشهادة الإجماع، وتوالي المحامد قد أفرده، بما شاع منه في الممالك وذاع؛ تتحاسد عليه غر الأخلاق، وتتنافس فيه المكارم منافسة ذوات الإشراق، فلا توجد خلة فضلٍ بارعٍ إلا وقد جمعها، ولا مكنه جبر قارع إلا وهو الذي مهد محجتها ووسعها؛ ومقاماته في الجهاد والجلاد مقاماتٌ أوضحت الحقائق للأفهام، وثبتت الدقائق تثبيتاً يبقى على غابر الأيام، وأعزت دعوة الدولة العلوية وأيدتها، ونصرت أعلامها ونشرتها، وأكتنفت بالتفضيل والإحسان رجالها، وأزالت بالجد والتشمير أوجالها، ومحت آثار عداتها بالسيوف، وألفتهم عن النكايات المجحفة بوزع المنايا والحتوف.
والحروب فمرباه في مهودها، ومنشاه بين أسودها، ورعاتها وقفٌ على إضرامها وإخماد وقودها؛ فإذا توردها توردها باسماً متهللاً، وإذا اقتحم مضايقها تصرف فيها متوقفاً متمهلاً، لا يحفل بأهوالها، ولا يرى لقارعةٍ من عظائم قوارعها وآلها؛ وحسبك فتكاته في طغاة الكفار، وقصد أولياء الدولة بالإظهار: فإن الكفار حين نهدوا للنفاق، واجتلبوا أشباههم من بعيد الآفاق، وتهجموا على الأعمال فجأهم بعزمة من عزماته أقامت راية الدين، وجعلتهم حصيداً خامدين، وأفنت منهم الصناديد، واصطلمتهم ببلايا تزيد على التعديد، واجتحفتهم بالقتل والأسر والتفريق، ورمتهم بدواهٍ لا يقدر بشريٌ على دفاعها ولا يطيق؛ ولما التجأ طاغية الكفر إلى الحيرة وركد، ورام الاعتصام بعروتها واجتهد، واغتر بما معه من الجمع وكثرة العدد، نهد إليه في الأبطال الأنجاد، ونهض نحوه ثابتاً للقراع والجلاد، فأزاله عن مجثمه، وذعره ذعراً شرده عن معلمه، ورماه بالحراك بعد السكون، والتعب الذي قدر باغتراره أن مثله لا يكون؛ وكم له فتكةٌ في أهل العمود ذللت جماحهم، واستلبت أرواحهم، وأعادت ليلاً بالنقع صباحهم.
وعند تمادي عتاة الكفار في الإصرار، وجوسهم خلال الديار، ونفثهم في وجوه الأذى والإضرار، وطمعهم في اجتياح أهل الأعمال والأقطار، عول أمير المؤمنين في استئصالهم على عزمه، واعتضد بذبه وحسمه، وجعل إليه التدبير بالقاهرة المحروسة التي هي عمدة الإيمان والإسلام، ودار هجرة الإمام، ومعقل الخلافة منذ غابر الأيام، وأطلق يده في رب جميع الأعمال، وتأمينها من بوائق الأوجال، فبث بالحضرة وبالأعمال من مهابته ما شرد الأوغار، وسهل الأمصار، ومحق الضلال، وأذاقهم النكال، فعم السكون والأمنة، واستولت على الأعمال السياسة المستحسنة، فحادت بنضرة الأيام وصلاح الوجود، واغتبطوا من تدبره بصعود الجدود، ورتعوا من عتايته في عيشٍ يضاهي عيش جنان الخلود؛ فالبلاغات بأسرها لا تقوم بمدح ما أوتي من الفضائل، ولا يوازي مجموعها منقبةً من مناقبه التي أربى بها على الملوك الأواخر والأوائل، والخصائص الملوكية بجملتها فيه جبلة وفطرة، وإذا قيست نادرةٌ من نوادر فضله بما تفرق في جميع الملوك كانت فضائله بمنزلة البحر ومجموع فضائل الملوك بمنزلة القطرة؛ وقد طرز فضائله البديعة، وخلاله السامية الرفيعة، من موالاة أمير المؤمنين ومناصحة دولته بما تكفل بسعادة الدنيا والآخرة، ونهايات مغانم الثواب الشريفة الفاخرة؛ فليله ونهاره مصروفان إلى المجاهدة عن دولة أمير المؤمنين التي هي دولة التوحيد، والمخلص فيها معرض لكل مقامٍ سعيد؛ فمحاسنه ترتفع عن قدر التقريظ والمديح، ولا تقابل إلا بموالاة التسبيح.
ولما أحمد أمير المؤمنين أثرهما في خدمته، وشكر قصدهما في دولته، وكان السيد الأجل قد بلغ إربه في الخلال، وحل المحل الذي لا تتعاطاه جوامح الآمال؛ وقدره يشرف عن كل تكريم، وموضعه يتميز عن كل منٍ جسيم، ومنزلته تسمو عن كل تعظيم- فأوصى أمير المؤمنين السيد الأجل أن يقرر له جميع خدمه، ويسبغ عليه في المستأنف أضفى نعمه: فإن محله يرتفع عن محل الخدم الجليلة، ويسمو عن كل تصرف يسمه في الدولة بسمة جميلة؛ ورأى أمير المؤمنين والسيد الأجل أن يعلن بإسناد النيابة عن والده في أمور المملكة إليه، ويشهر أن ذلك معولٌ فيه عليه: ليخفف عن السيد الأجل أمير الجيوش أمر أثقالها، ويتحمل عنه تكليفه بعض أحوالها، ترفيهاً للسيد الأجل عن التعب، وتخفيفاً من كثرة النصب؛ على أن علو قدره الأجل لم يخله في وقتٍ من الأوقات من مشاركةٍ في التدبير، ولا صده عن ممازجةٍ في مهمٍ كبير، بل ما برحت يده في جميع أحوال الدولة جائلة، وجلالة منصبه تقضي بأن تكون تصريفاته لجميع الأمور شاملة، وتوقيعاته ماضيةً في الأموال والرجال، والجهات والأعمال؛ وأمير المؤمنين والسيد الأجل يستسعدان بأداته، ويتتبعان في كل السياسات ما هو موافقٌ لإراداته: لما خصه الله به من المرامي الصائبة، والمقاصد التي السعادة على ما يرد منها مواظبة، وجبله عليه من المحافظة على حسن المرجع وحميد العاقبة- خرج أمر أمير المؤمنين إلى السيد الأجل بالإيعاز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك: فتقلد ما قلدته من النيابة عن والدك فيما إليه من أمور مملكته، وأحوال دولته، معتمداً على تقوى الله التي بها نجاة أهل اليقين، وفوز سعداء المتقين، لقول الله عز من قائل: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}. واحمل عن السيد الأجل والدك ما يؤثر أن تحمله عنه من الأثقال، وتكفل ما يكلفك إياه من الأشغال، ونفذ ما يختار أن تنفذه، وأنجز ما يؤثر أن تنجزه، وأمض ما يشير إليك بإمضائه من أساليب التوقيعات، وفنون المهمات، وقم في كل من أمور نيابتك المقام الذي يرضيه، ويوجبه برك ويقتضيه؛ وقد جعلك الله ميمون النقيبة، مسعود الضريبة، مكمل الأدوات، مؤهلاً لترقي الغايات، لا تكبر عن مباشرتك كبيرة، ولا تشف عن رتبتك رتبةٌ خطيرة؛ واجر على عادة والدك في حسن السياسة والتدبير، والإجمال للأولياء لكما في كل صغيرٍ من الأمور وكبير.
والوصايا متسعة الفنون، كثيرة الشجون؛ ولك من مزية الكمال، وفضيلة الجلال، ومساعدة الإقبال، والخبرة بالجهات والأعمال، وطوائف الأولياء والرجال، ما يعينك على استنباط دقائقها، والعمل بحقائقها، وسلوك أحسن طرائقها.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك؛ فاعمل بأحكامه، وأجر أمورك على نظامه، وبالغ أيها السيد الأجل أمير الجيوش في شكر نعمة الله التي ألهمت الملوك إشاعة فضلك، ورتبت السعود على اكتناف عقدك وحلك، ومنحتك آية كليم الله فجعلت لك وزيراً من أهلك؛ فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وعلى ذلك كتب بعض كتابهم عن العاضد، لرزيك بن الصالح طلائع بن رزيك، بولاية المظالم وتقدمة العسكر في وزارة أبيه، وهذه نسخته: من عبد الله ووليه فلانٍ أبي فلان الإمام الفلاني بلقب الخلافة أمير المؤمنين، إلى فلان بلقبه وكنيته.
سلامٌ عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، الأئمة المهديين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد، فالحمد لله الغامر بالطول والفضل، الآمر بالإحسان والعدل، موسع سبل الصلاح لبريته، ومسبب أسباب النجاح لدينه الحنيف وملته، وجاعل أبرار أوليائه ذخائر معدةً لنفع الخلق، ومصطفي سعداء أحبائه لإعلاء منار الشرع وإقامة قسطاس الحق، وميسرهم للنهوض بالأعباء التي تتكفل بعضد الدولة العلوية وتقوم، ومجتبيهم للفضل بمرضاته فيما يقضي بإغاثة الملهوف وإنصاف المظلوم، الذي تنقاد بمشيئته الأمور، وتتصرف بإرادته الدهور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ويغدو فضله على عباده جسيماً، {ولا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وإنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ويُؤْتِ من لَدُنْه أجراً عظيماً}.
والحمد لله الذي أوضح بأنبيائه سبل الهدى للأنام، وأنقذ بإرشادهم من عبادة الأوثان والأصنام، وأقام باجتهادهم أحكام ما شرعه من الملل والأديان، وأذهب بأنوارهم ما غمر الأمم من غياهب الظلم والعدوان، وقفى على آثارهم بمن لا نبوة بعد نبوته، ولا حجة أقطع من حجته، ولا وصلة أفضل من وصلةٍ ذخرها لأمته، ولا ذرية أقوم بحق الله في حفظ نظام الإيمان من عترته وذريته.
يحمده أمير المؤمنين على أن مكن له في الأرض، وذخر شفاعته لذوي الولاء في يوم النشور والعرض، وأورثه خصائص من مضى من أئمة الهدى آبائه، وأفرده بمعجز التأييد الذي أضاءت الآفاق بمشرق أنبائه، ويشكره على أن أنجد دولته بكفيلٍ جدد جلبابها، وظهيرٍ أحكم أسبابها، ونصيرٍ بلغ بها في الولي والعدو مطالبها وآرابها، واستنجب له من نجله خليلاً يتلوه في الفضائل البارعة، وناصراً يحأول في الذب عن حوزته عزماً أمضى من السيوف القاطعة، وعضداً يقوم له بإرضاء الخالق والمخلوق، ومسعداً لا يألو جهداً في إيصال المستحقين إلى ما جعله الله لهم من الحقوق. ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ سيد من بلغ عن الله رسالةً وأمراً، وأفضل من دعا إلى توحيد بارئه سراً وجهراً، وأكمل من جاهد عن دينه حتى ظهرت بعد الدروس جدته، وقهرت إثر الخضوع عزته، وانتشرت في المشارق والمغارب كلمته ودعوته، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أبينا علي بن أبي طالب، قسيمه في الشرف والأبوة، وصديقه الأكبر فيما جاء به من النبوة، والمكمل بالنص على إمامته الدين، وخامس الخمسة الذين سادسهم الروح الأمين، وأبي الأئمة الأبرار، والهازم بمفرده كل جيش جرار، وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام محجة الهدى، وأنوار سبل الإيمان التي بأنوارها يستبصر ويقتدى، وأدلة منهاج النجاة، وكاشفي غمم الشك إذا الظلم دجاه، وسلم ومجد، وتابع وردد.
وإن أمير المؤمنينلما اصطفاه الله له من إرث سر الإمامة المصون المكنون، وحق بياته العظيم الذي بالخشوع لجلاله أفلح المؤمنون، واختاره له من نشر لواء الحق ونصره، وتأكيد أحكام الإنصاف ليحظى بعائدتها كافة أهل زمنه وعصره، وألبسه إياه من تاج خلافته الذي أشرق لبصائر العارفين نوره الساطع، وتجلى لأفهام الموقنين برهانه الصادع ودليله القاطع، وأودعه من خفايا الحكم التي عذب سلسبيلها، وبلغ إلى النعيم الخالد دليلها وسبيلها، وكمله لأيامه من الإقبال الذي جعلها مواسم زاهيةً بهجة النصر المبين، وأعياد ظفرٍ تروق بتوالي إبادة العادلين عن الطاعة الناكبين، وأوقاتاً سعيدةً تفيد الدين وأولياءه عزاً واعتلاء، وتوجب للإيمان وأنصاره اقتداراً واستيلاء، وتسبغ عليهم كيفما تصرفت بهم الأحوال منناً ضافيةً وآلاء، ويسره لعلمه من الإحاطة بكل مغيب مستور، وأوجبه لأغراضه في كل ما يرومه من مظاهرة المقدور، ومهده لحلوله من أشمخ منازل التطهير والتقديس، وشرف به شيمه من كل خلق نبوي بارعٍ نفيس، وفضله به من الكرم الذي لا تزال سحبه تجود الأمم سرفاً، ولا تنفك غيوثه تجد لمن مطر به علاءً وشرفاً، ولا برح وابله يعم بالنعم الغر الجسام، ولا تكف سيوبه عن إفاضة المنن التي علت وغلت فلا تسامى ولا تسام، وخص به إحسانه من المثابرة على إعظام المنائح للمستوجبين، والمحافظة على إجزال المواهب للمزدلفين إليه بالأعمال الصالحة المتقربين، يجهد آراءه في ارتياد من تتضاعف للبرية بالاستعانة بكماله أسباب المصالح، وتتأكد للأمة بالتعويل على بارع فضله أحكام النجح والمناجح، وتقوم الحجة عند الله بالاعتضاد به فيما يقضي بنفع العباد، ويسهل الاعتماد على ديانته بالنصح لله في الحاضر من بريته والباد، وينطق شرف خلائقه بتوفره على إحراز مغانم البر والتقوى، وتعرب طرائقه عن السعي الذي لا يقف في مرضاة ربه دون بلوغ الغاية القصوى، وتدل أحواله على رعاية حقوق الله سبحانه في كل ما يفعل ويقول، وتوضح أخباره حسن تأتيه في مصالح الأمم لما يعجز عن استنباطه رواجح العقول، ويقتدح نظره أنواراً يستضاء بها في طرق السياسات الفاضلة، ويفتتح فكره أبواباً تضحى بها الخليقة غلىالخيرات الكاملة واصلة، ويبعثه حسن جبلته على أن يحتقر في إعانة البرايا، عظائم المشاق، ويدعوه كرم سجيته إلى أن يحنو على الرعايا، حنو من يتوخاهم بالرحمة والإشفاق، ويقوى بإعانته المستضعف قوةً تحصنه من عدوى الاهتضام، ويعز بملاحظته المستذل عزةً تخرجه عن صورة المقهور المستضام، ويقتفي الآثار الصالحية في عدل الطباع وحسن الشيم، ويتبع السنن الغياثية في الإحسان إلى جميع الأمم، ويقصد في اللطف بالصغير والكبير قصدها، وينتحي نواجم الباطل فيعتمد اجتثاثها وحصدها؛ ويكون تفويض أمير المؤمنين إليه توثقاً عند خالقه وباريه، واحتياطاً لنفسه في استناد المهمات منه إلى من لا يدانيه مدانٍ ولا يباريه، وتتيمن الدولة العلوية بمباشرته للأحوال تيمناً يؤذن لها بإدراك كل مطلب بعيد، وتستسعد بحسن سيرته استسعاداً يقضي للمناجح بتمكينٍ تبدي فيه وتعيد، وتختال الأيام بما اجتلته من جواهر مفاخره، وتزدان الأزمان بما توشحته من مناقبه التي حقرت الملوك في أول الدهر وآخره.
وقد اكتنفتك أيها الأجل عنايات الله سبحانه واشتملت عليك، وتتابعت مواد اصطفائه واجتبائه إليك، وأنالتك من كل فضل بارعٍ، غايته، وأظهرت فيك لكل كمال رائع، آيته، وجمعت لك من معجزات المحاسن ما لولا مشاهدتك لوجب استحالة جمعه، ولأنكر كل متدبرٍ صدر حديثه عن صدر صدره أو ورود سمعه؛ ويسر لك تمام السعد والإقبال، الترقي إلى ذروة العلى التي يهاب النجم أن تمر ملاحظتها منه ببال، وتأنقت الحظوظ في إعظام ما خولتك من الفضائل الباهرة فبالغت وتناهت، وأغرقت فيما أتحفتك به من المحاسن النادرة فشرفت بك وتباهت، حتى غدا جسيم ما قدم شرحه من الثناء وذكره، وعظيم ما وجب منه نشره فتضوع أرجه ونشره، نغبةً من بحارها الزاخرة، وشذرةً من عقودها الفاخرة، وقليلاً من كثيرها الجسيم، وضئيلاً من جزيلها الذي استكمل خصائص التعظيم.
واستثمر فأنت الجامع لمفترق الفضائل الملكية، والفارع ذرى الجلال الذي أفردتك به المواهب الملوكية، والممنوح أعلى رتب السيادة السارية إليك من أكرم الأصول، والملموح بارتقاء هضاب المجد التي عجز ملوك الآفاق عن الانتهاء إليها والوصول، والأوحد الذي بذ العظماء فعظم خطراً وقدراً، والأروع الذي انقادت له الصعاب فرحب باعاً وصدراً، والعالم بالأمور الذي أصلح أعلم ملوك الأرض بأحسن التدبير وأدرى، والمذكي بأنوار ذكائه في عاتم النوب سراجاً وهاجاً، والمشمر في ذات الله فلا يوجد له على غير ما أرضاه معاجاً، والمبتكر من غرائب السياسات، ما لا تزال محاسنه على مفرق الزمن تاجاً، والممجد اللهج بتمجيده كل مقول ولسان، والمعجز كل متعاطٍ وإن كان بليغاً بديع الإحسان، والممنوح المعرق في السيادة والمملكة، والمبتدع المكارم أبكاراً تجل عن أن يشابهه أحدٌ فيها أو يشركه؛ فآيات مجدك ظاهرةٌ باهرة، وغر خلائقك في اختراع المآثر وافتراعها ماهرة، وإليك إيماء السعادة وإشاراتها، والدسوت باعتلائك مناكبها تسامي السماء أرجاؤها، ويتحقق في البحر الأعظم بتصدرك فيها رجاؤها، فلا كمال إلا ما أصبح إليك ينسب، ولا جلال إلا ما يعد من خصائصك ويحسب؛ ولم تزل لربك خاضعاً، ولشرفك متواضعاً؛ وأنوار الألمعية توضح لك من طرق الأمانة ما يعجز عن إدراكه قوي التجريب، وتحكم لك من أحكام السياسة ما تقصر عن أقله فطن الحكماء الشيب، وتبدي لك أسرار الأزمنة المتطأولة في إقبال سنك، وتلين بتلطفاتٍ صلابة الخطوب مع نضارة غصنك، وما برح لذكر أخبار صولتك، وحديث ما عظمه الله من فروسيتك وشجاعتك، يوفر حلوم الأبطال في الملاحم إذا أطارها الذعر فطاشت، ويسكن نفوس الأنجاد في الملاحم إذا أطارها الذعر فجاشت، ويحدث للجبناء جرأةً وإقداماً، ويجعل الكهام في الحروب ملقاً حساماً؛ فخيلاء الأعوجية زهو مما ترقبه من شرف امتطائك، وصليل المشرفية ترنم بمطرب قصصك وأنبائك، واهتزاز السمهرية جذلٌ بما كفلتها من إشادة علائك، وضمنتها من إبادة أعدائك، وليس بغريبٍ من تفضل الأملاك، وتطأ أخامص السماك، وتختال في وشي الوصف البديع، وتشرق أسرة محاسنك فتخجل ضوء الصبح الصديع؛ وقد أكرمك الله مع فضل الخليقة والفطرة، وكمال الخصائص التي غدا كلٌ منها في بديع المعجزات ندرة، ببنوة مغيث الأنام ومصلح الأيام؛ وكفيل أمير المؤمنين وكافيه، ومبرئ ملكه من أسقام الحوادث وشافيه، السيد الأجل الملك وتتمة النعوت والدعاء الذي انتضاه الله لكشف الغمم، وارتضاه لتدبير الأمم، وفضله على ملوك العرب والعجم، وشمخ علاؤه فتطامن له كل عليٍ ودان، وسمت مواطئ أقدامه فتمنت منالها مواطئ التيجان، وحاز بالمساعي الفضل الباهر أجمع، واستولى على بواهر الحكم بالنظر الثاقب والقلب الأصمع، وأفرد بكمالٍ عز أن تدركه الآمال، أو يكون لاشتطاطها فيه مطمع أو مجال؛ وغدا النصر المبين تابعاً لعذب ألويته، وحسن إقباله في كل موطن كفيلٌ بإدبار العدو وتوليته، وأجاب داعي الله إذ استنصر لآل بيت النبوة واستصرخ، ولبى دعاءة تلبيةً تسطر أخبارها على ممر الزمان وتؤرخ، وأجلى شياطين الضلال وقد تبعت في زعيمها الجاحد وثنا، وصدها بالعزم المرهف عما أصرت عليه من منكر الإلحاد وثنى؛ وبدلت سطاه جبابرة الطغاة من الأوطان بعداً وسحقاً، وأمتعتهم فتكاته من الأعداء الوافرة إفناءً وسحقاً، وأذاقتهم حملات جيوشه وبال أمر من عاضد باطلاً وعاند حقاً، وجعلتهم شفار سيوفه الباترة في التنائف حصيداً، وقصد بمواضيها أشلاءهم ودماءهم فألجم غروبها وسقى، وكشف بلوامعها عن الدولة الفاطمية من معرتهم جنحاً عاتماً وغسقاً، وكفل أمورهم فأحسن الإيالة والكفالة، وأعادها إلى أفضل ما تقدم لها من القوة والفخامة والجلالة، ونظر أحوالها فقوم كل معوجٍ وعدل كل مائل، وحباها ملبس جمال تقبح عند بهجته ملابس الخمائل.
ولما أباد عصب العناد، عطف على الاجتهاد في الجهاد، فجابت جحافله متقاذف الأقطار، ونالت من الفتك بالكفرة في أقصى بلادها نهاية الأوطار، وانتزعت منهم الحصون، واستباحت الممنع المصون، حتى أصارت جلدهم المشهور فشلاً، وفيض إقدامهم المذكور وشلاً، وشمل الأمة بسيرةٍ عرفت بالعدل والإحسان، وأحظت الخلائق بالأمن المديد الظلال، وأرضتهم بالعيش الرائق الزلال، وأنالتهم من المطالب ما اتسعت لإدراكه خطا الآمال، وجاد ففضح الغمائم، ومن على ذوي الذنوب حتى كاد يتقرب إليه بالجرائم، وأقال عثراتٍ كبرت فلولا كرم سجيته لم يرم الإقالة من خطرها رائم؛ وأمده الله من معجزات البلاغة والبيان، وغرائب الحكم البديعة الافتنان، ما يستخف الأحلام بفرط الطرب والإفتان؛ ولم يزل منذ كان يحمي سرح الدين، ويضم نشر المؤمنين، ويبذل نفسه الشريفة في نصرة الدولة العلوية بذل أكمل ناصرٍ وأفضل معين؛ وتكبر عظائم الخطوب فيكون عزمه أعظم وأكبر، وتزهى الأيام بغر محاسنه وهو لا يزهى ولا يتكبر، فقد عز جانب كماله، عن أن يناهضه جهد المديح، وارتفع محل جلاله، فلا ينال تكييفه بإشارةٍ ولا تصريح، وعظم قدر مفاخره فلم يقابل إلا بموالاة التمجيد لخالقه والتسبيح، ووجب على متصفح خصائصه الموالاة في التعظيم، ولزوم منهج استيداعٍ لا يبرح عنه ولا يريم، ومبالغة قوله تعالى: {مَا هذا بَشَراً إنْ هذا إلاَّ مَلَكٌ كَرِيم}.
فبلغ الله أمير المؤمنين في إطالة مدته الآمال، وأبقى لمدته باستمرار نظره الحظ والجمال، وفتح له المشارق والمغارب بهممه العالية وعزائمه، وجعل نواجم الإلحاد حصائد شفار صوارمه، فافخر أيها الرجل بأصلك وفرعك كيف شيت، وابجح بما منحت منه وأوتيت، ووال شكر خالقك على ما خولت وأوليت؛ فما فخر بمثل فخرك ملكٌ سميدع، ولا تباهى الدهر لأحد بمثل ما تباهى في حقك ولا أبدع.
ولما تكامل لك أيها الأجل بلوغ هذا الفضل الجسيم، وتم ما منحته من المجد الحادث والقديم، جدد أمير المؤمنين لك شعار التعظيم، وكمل لديك المفاخر تكميل العقد النظيم، وجعل الخير في إمرته لك عياناً، وأقامك للدولة الفائزية والمملكة الصالحية برهاناً، وجعلك لكافة المسلمين في أقطار الأرض سلطاناً، وطابق بين ما خصك به من السمات السنية، وبين ما مكنه لك من المراتب العلية، فاتخذك لدولته ناصراً وعضداً، وانتخبك للإسلام مجداً وسنداً، وأحيا بمرافدتك أنصار الدين، وشفى بنظرك صدور المؤمنين، واستخلصك لنفسه النفيسة حميماً وخليلاً، وبلغ بك إلى الغاية القصوى إعلاءً وتبجيلاً، وشرفك بخلع بديعةٍ من أخص ملابس الخلافة تروق محاسنها كل النواظر، وتفوق بدائعها ما دبجه زهر الروض الناضر، وقلدك سيفاً يؤذن بالتقليد، ويبشر بالنصر الدائم المزيد، تتنافس في متنه وفرنده الجواهر، ويستولي ناصعها على الباطن منه والظاهر، وعززها بالتشريفات التي اكتنفتها البهجة والبهاء، وبلغتها في العلى إلى الغاية التي ليس بعدها انتاء، وآثر أن تبسط يدك في التدبير، ويعدق بك ما هو عنده بالمحل الكبير، ويجمع لك من أشتات دولته ما لم يعرف لجمع مثله في سالف الزمن نظير، ويسند إلى كمالك ما يعود النفع بصلاحه على المأمور من الأنام والأمير.
ففاوض أيها السيد الأجل الملك الصالح والدك أدام الله قدرته، وأعلى كلمته، في ذلك مفاوضةً أفضت إلى وقوع الإجماع على أنك أكمل ملوك دهرك ديناً، وأصحهم يقيناً، وأشرفهم نفساً وأخلاقاً، وأكرمهم أصولاً وأعراقاً، وأمثلهم طريقةً وأحسنهم سيرة، وأنقاهم صدراً وأطهرهم سريرة، وأشفهم جوهراً وأزكاهم ضريبة وأتقاهم لله سراً وعلناً، وأولاهم بأن لا يصدر عنه من الأفعال إلا جميلاً حسناً؛ وأنك أفضل من عدق أمير المؤمنين بنظره أمر الدنيا والدين، وأسند إلى ملاحظته أحوال أمراء الدولة ورجالها أجمعين، وفوض مصالح المسلمين منه إلى التقي الأمين؛ وأن السيد الأجل الملك الصالح أدام الله قدرته لما أخلص محله عند أمير المؤمنين بتتابع الإشادة، وتفرد باستمرار المضاعفة بإذن الله تعالى والزيادة، واستولى على الأمد الأقصى في السمو لديه والتعالي، وانخفضت عن ثراه ذرى أشمخ المعالي، كان عند أمير المؤمنين الأول في الجلال وأنت ثانيه، والسابق في الفخار وأنت تاليه، ودل بفضلك على فضله دلالة الصبح على النهار، والنماء على الإبدار، والثمر الطيب على فضيلة الأصل والنجار، فتبارك مولي المنن لأوليائه وحبه القائل في محكم كتابه: {والبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بإذْنِ رَبِّه}.
وقرر لك أمير المؤمنين استشفاف أمور المظالم، وإنصاف المظلوم من الظالم، والنظر في اسفهسلارية العساكر المؤيدة المنصورة إيثاراً من أمير المؤمنين لأن يجعل لك خير الدنيا والآخرة ميسراً، ويثبت لك في كلٍ من أمور العاجلة والآجلة حديثاً حسناً وأثراً، ورتب ذلك لك ترتيباً يصحبه التوفيق ويلزمه. ويكمله السعد ويتممه، ويحيط به اليمن والنجاح، ويشتمل عليه الحظ والفلاح. فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين شاكراً لأنعمه متمسكاً بأسباب ولائه وعصمه، جارياً على أحسن عاداتك في مراقبة الله وخيفته، مستمراً على افضل حالاتك في خشيته، متبعاً أوامره في العمل بتقواه، وزاجراً للنفس عما تؤثره وتهواه؛ يقول الله في كتابه المبين: {إنَّهُ مَنْ يتَّقِ ويَصْبِرْ فَإنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أجْرَ المُحْسنين}.
والعم أن المظالم كنزٌ من كنوز الرحمة، وبابٌ يتوصل منه إلى مصلحة الأمة، ووسيلةٌ يتوسل بها السعداء إلى خالقهم في استبقاء ما أسبغ عليهم من النعمة؛ فاجلس لها جلوساً عاماً ترفع فيه الحجاب، وتيسر للوصول إليك عنده الأسباب، وتأمر بتقريب المتظلمين وتوعز بإدنائهم لتسمع كلام الشاكين، وتوفر على الأخذ بيد المستضعف القريع، والحرمة التي لا تجد سبيلاً للإنصاف ولا تستطيع، وتتقدم بأن تحضر بين يديك النائب في الحكم العزيز الذي على فتياه مدار أحكام الدين، ومن تحتاجه من الموقعين والدواوين، وتأمر بإحضار القصص وعرضها، وتتأمل دعاوي المتظلمين في إبرامها ونقضها، وتوقع على كلٍ منها بما يقتضيه الشرع وأحكامه، ويوجبه العدل ونظامه.
وانظر في مشكل القصص نظراً يزيل إشكالها، ويجعل إلى لوازم الشرع والحق مآلها، وراع أمر المنازعات حتى تنتهي إلى الأواخر، ولا يبقى فيها تأملٌ لمتأمل ولا نظرٌ لناظر؛ وتخرج أوامرك بإيصال كل ذي حقٍ إلى حقه، وكف كل متعد عن سلوك سبيل العدوان وطرقه، وليكن الضعيف أقوى الأقوياء عندك إلى أن يصل إلى حقه موفراً، والقوي أضعف الضعفاء حتى يخرج مما عليه طائعاً أو مجبراً؛ والشرع والعدل فهما قسطاسا الله في أرضه، ومعينان على الحق من أراد العمل بواجب الحق وفرضه، فخذ بهما وأعط بين العباد، وأثبت أحكامهما فيما قرب وبعد من البلاد، وساو بهما في الحقوق بين الأنام، وصرف النصفة بحكمهما بين الخواص والعوام، حتى ينتصف المشروف من الشريف، والضعيف من ذي القوة العنيف، والمغمور من الشهير، والمأمور من الأمير، والصغير من الكبير؛ واستكثر بإغاثة عباد الله ذخائر الرضوان، واستفتح بقيامك بحقوق الله فيهم أبواب الجنان، واعمم بسعيد نظرك وتام تفقدك وملاحظاتك جميع صدور أولياء الدولة وكبرائها، ومقدميها المطوقين وأمرائها، وميز بها الأعيان، ورجالها الظاهرة نجدتهم للعيان، وتوخ الوجوه منهم بالإجلال والإكبار، وتبليغ الأغراض والأوطار، والتمييز الذي يحفظ نظام رتبهم، وينيلهم من حراسة المنازل غاية أربهم، والقهم مستبشراً كعادتك الحسنى، واجر معهم في كرم الأخلاق على مذهبك الأسنى، وعرفهم بإقبالك على مصالح أمورهم، واتجاهك لمصالح شؤونهم، بركة اشتمالهم بفضلك، والتحافهم بظلك، واقصد من يليهم بما يبسط آمالهم، ويوسع في التكرمة مجالهم، ويكسبهم عزة الإدناء والتقريب، ويخصهم من إحفائك بأوفر سهم ونصيب؛ وكافة الرجال فاحفظ نظامهم بحسن التدبير، وأثر فيهم بجميل النظر أحسن التأثير، وتوخهم بما يشد باهتمامك أزرهم، ويصلح بتفقدك أمرهم، ويقف على الطاعة سرهم وجهرهم، وييسر لهم أسباب المصالح ويسهلها، ويتمم لمطالبهم أحكام الميامن ويكملها؛ وأصف لجميع ذكرهم من سابق في التقدمة وتال، ومخلص في المشايعة وموال، مناهل إحسان أمير المؤمنين الطأمية الحمام، المتعرضة مواردها العذبة لأدواء كافة الأنام، فهم أنصار الدولة وأعوانها، وأبناء الدعوة وخلصاؤها وشجعان المملكة وفرسانها، ونجدة خلاصها عند اعتراض الكروب، وسيوفها المذربة القاطعة الغروب، وأسنتها المتوغلة من الأعداء في سويداء القلوب، وحزبها الذي أذن الله بأنه الغالب غير المغلوب؛ ولكلٍ منهم منزله من التقديم، وموضعه من الاشتمال بظل الطول العميم، ومحله من الغناء ومكانه من الكفاية الذي بلغ إليه فسده. فرتب كلاً من المقدمين في الموضع الجدير به اللائق، وأوضح للموفقين أنوار مراشدك ليلحق بتهذيبك السكيت منهم بالسابق.
والوصايا متسعة النطاق، متشعبة الاشتقاق؛ ولم يستوعب لك أمير المؤمنين أقسامها، ولا حأول إتمامها: للاستغناء بما لك من المعرفة التي غدت في استنباط حكم السياسات أكبر معين؛ ولا يزال يضيء لبصيرتك من أنوار السيد الأجل الملك الصالح- أدام الله قدرته- التي لا تبرح للبصائر لامعة، ولمحاسن الأفعال وغررها جامعة، ما تستعين بأضوائها على الغرض المطلوب من الإصابة وأكثر.
هذا عهد أمير المؤمني إليك، وإنعامه عليك؛ فتلقه من الشكر بما يكون للمزيد سبباً مؤكداً، ويغدو الإحسان معه مردداً مجدداً، وابذل جهدك فيما أرضى الله وأرضى إمام العصر، وثابر على الأعمال التي تناسب فضائلك المتجاوزة حد الحصر؛ والله يعضدك بالتوفيق، ويمهد لك إلى السعادة أسهل طريق، ويرهف في الحرب عزائمك، ويمضي في الأعداء صوارمك، ويضاعف لك مواد النصر والتأييد، ويخص بناء مجدك بالإعلاء والتشييد؛ إن شاء الله. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
قلت: والذي يظهر أن مما كان يكتب في دولتهم على هذه الطريق سجلات كبار نياباتهم، حال استفحال الدولة في مبادئ أمرها، قبل خروج البلاد الشاسعة عنها واستقلاعها من أيديهم: كدمشق ومضافاتها من البلاد الشامية قبل خروجها عنهم لبني أرتق في زمن المستنصر أحد خلفائهم، وكأفريقية وما معها من بلاد الغرب قبل تغلب المعز بن باديس نائب المستنصر المتقدم ذكره بها وقطع الخطبة له، وكجزيرة صقلية من جزائر البحر الرومي قبل تغلب رجال أحد ملوك الفرنج عليها وانتزاعها من أيديهم في زمن المستنصر المذكور أيضاً؛ فإن دمشق وأفريقية وصقلية كانت من أعظم نياباتهم، وأجل ولاياتهم، فلا يبعد أن تكون في كتابة السجلات عندهم من هذه الطبقة.
المرتبة الثانية من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن يفتتح السجل بالتصدير:
فيقال: من عبد الله ووليه إلى آخر التصلية، ثم يؤتى بالتحميد مرةً واحدةً ويؤتى في الباقي بنسبة ما تقدم، إلا أنه يكون أخصر مما يؤتى به مع التحميدات الثلاث ثم هي إما لأرباب السيوف أو لأرباب الأقلام من أرباب الوظائف الدينية والوظائف الديوانية.
فأما السجلات المكتتبة لأرباب السيوف، فمن ذلك نسخة سجلٍ بولاية القاهرة من هذه الرتبة: لرفعة قدر متوليها حينئذٍ، وهي: من عبد الله ووليه إلى آخره.
أما بعد، فالحمد لله رافع الدرجات ومعليها، ومولي الآلاء ومواليها، ومحسن الجزاء لمن أحسن عملاً، ومضاعف الحباء للذين لا يبغون عن طاعته حولاً، ومنيل أفضل المواهب ومخولها، ومتمم النعمة على القائم بشكرها ومكملها، ومتبع المنن السالفة بنظائرها وأشكالها، والمجازي على الحسنة بعشر أمثالها، وصلى الله على جدنا محمدٍ ورسوله الذي أقام عماد الدين الحنيف ورفعه، وخفض بجهاده منار الإلحاد ووضعه، وأرغم عبدة الصليب والأوثان، ونشر في أقطار المملكة كلمة الإسلام والإيمان، وكشف غياهب الضلال بأنوار الهدى اللامعة، وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، سيف الحق الماضي المضارب، وبحر العلم الطامي اللجج والعوارب، ومعين الحكمة العذب المشارع، والمخصوص بكل شرفٍ باسق وفضلٍ بارع، وعلى آلهما سادة الأنام، وحماة سرح الإسلام، وموضحي حقائق الدين، وقاهري أحزاب الملحدين، وسلم ومجد، وضاعف وجدد.
وإن أمير المؤمنين لما آتاه الله من شرف المحتد والنجار، وتوجه به من تيجان الإمامة المشرقة الأنوار، وألقاه إليه من مقاليد الإبرام والنقض، وأناله إياه من الخلافة في الأرض، والشفاعة في يوم العرض، وعدقه به من إيضاح سبل الهدى اللامعة، وهتك حجاب الكفر ببراهين التوحيد الصادعة وسيوف النصر القاطعة، إلى الأنام، وأطلعه عليه من أسرار الحكمة بمناجاة الإلهام، وأقامه له من إعلاء منار الملة وتقويم عماد الحق، وأمد به آراءه من العنايات الربانية فيما جل ودق، وأمضاه له في الأقطار من الأوامر والنواهي، وأفرده به من الخصائص الشريفة التي يقصر عن تعديدها إسهاب الواصف المتناهي، ويسره لإرادته من اقتياد كل أبيٍ جامح، وحببه إليه من استعمال السيرة المستدنية من المصالح كل بعيدٍ نازح- يضاعف بهاء أيامه باصطفاء ذوي الصفاء، ويزيد في بهجة زمانه باستكفاء أولي الوفاء، ورفع منازل المعرقين في الولاء إلى غايات السناء، وينيل المخلصين من الحباء، ما يدل على مواضعهم الخطيرة من الاجتباء، ويسند معالي الأمور، إلى الأعيان الصدور، ويعدق الولايات الخطيرة بمن حسنت منه الآثار والسيرة، وأظهر تغاير الأمور ما هو عليه من خلوص النية ونقاء السريرة، واستولى على جوامع الفضل وغاياته، وقصرت همم الأكفاء عن مماثلته في الغناء ومساواته، وألقت إليه المناقب قياد المستسلم المسلم، وأعجز تعديد محاسنه البارعة كل ناطقٍ ومتكلم، وسمت همته إلى اكتساب الفخار، واستكمل فنون المحامد فحصلت لديه حصول الاقتناء والادخار، وفاز من كل مأثرة بالنصب الوافر المعلى، وتشوفت إليه الرتب السنية تشوف من رأته لها دون الأكفاء أهلاً، وكفى المهمات بجنان ثابتٍ وصدر واسع، وقربت عليه أفعاله المرضية من الميامن كل بعيدٍ شاسع، ووسم جلائل التصرفات بما خلفه بها من مستحسن الآثار، وخلصت مشايعته من الأكدار فحل في أميز محلٍ من الإيثار، وجارى المبرزين من أرباب الرياسات فسبق وأبر، وأحرز جميل رأي ولي نعمته فيما ساء وسر.
ولما كنت أيها الأمير المعني بهذا الوصف الرفيع، المخصوص من مفاخره بكل رائع بديع، الحال من الاصطفاء في أقرب محلٍ وأدناه، المرتقي من الرياسة أشمخ مكانٍ وأسناه، الأوحد في كل فضيلةٍ ومنقبة، الكامل الذي أوجب له الكمال صعود الجد وسمو المرتبة، المصلح ما يرد إلى نظره بالتدبير الفائق، الشامل ما يعدق به بحزمه الذي لا تخشى معه البوائق، المجمع على شكر خصائصه وخلاله، الفائت جهد الأعيان الأفاضل بعفو استقلاله، المعتصم من المشايعة بالسبب المتين، المتميز على الأكفاء بمآثره المأثورة وفضله المبين؛ وما زالت مساعيك في طاعة أمير المؤمنين توجب لك منه المزيد، تستدعي لمنزلتك من جميل رأيه مضاعفة التشييد، وتخصك من الاجتباء بالنصيب، الوافر الجزيل، وتبلغك من تتابع النعم ما يوفي على الرجاء والتأميل.
وقد باشرت جلائل الولايات، وعدق بك أفخم المهمات، فاستعملت السيرة العادلة، وسست السياسة الفاضلة، وجمعت على محبتك القلوب، وبلغت الرعية من إفاضة الإنصاف كل مؤثر ومطلوب؛ وإذا برقت بارقة نفاق، ونجم ناجم من مردة المراق، كنت الولي الوفي، والمخلص الصفي، والمدافع عن الحوزة بجهاده، والمحامي عنها بماضي عزمه وصادق جلاده، والباذل مهجته دون ولي نعمته، والجاهد فيما يحظيه بنائل مواته وتأكد أذمته؛ ومجي ظلام الخطب الدامس بحسامه، ومزيل الخطب الكارث برأيه واعتزامه؛ ومواقفك في الحروب، تكشف الكروب، وتروي من دماء الأبطال ظامئات الغروب، وتورد سنان اللدن العاسل، وريد الكمي الباسل، وتحكم ظبا المناصل في الهامات والمفاصل، وتستبيح من مهج الأقران كل مصون، وترميهم من قوارع الدمار بضروب متسعة الفنون؛ فآثارك في كل الحالات محمودة، وشرائط الاصطفاء فيك فاضلةٌ موجودة. وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره، وكافل ملكه وظهيره، السيد الأجل الملك الذي فأثنى عليك ثناءً وسع فيه المجال، وخصك من شكره وإحماده بما أفاض عليك حلل الفخر والجمال، وقرر لك الخدمة في ولاية القاهرة المحروسة، فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من ذلك: عاملاً بتقوى الله الذي تصير إليه الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ قال الله في كتابه المبين: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}.
واعلم أن هذه المدينة هي التي أسس على التقوى بنيانها، ولها الفضيلة التي ظهر دليلها ووضح برهانها: لأنها خصت بفخرٍ لا يدرك شأوه ولا تدرك آماده، وذلك أن منابرها لم يذكر عليها إلا أئمة الهدى آباء أمير المؤمنين وأجداده، ثم إنها الحرم الذي أضحى تقديسه أمراً حتماً، وظل ساكنه لا يخاف ظلماً ولا هضماً، وغدت النعمة به متممةً مكملة، والأدعية في بيوت العبادات به مرفوعةً متقبلة: للقرب من أمير المؤمنين باب الرحمة ومعدن الجلالة، وثمرة النبوة وسلالة الرسالة؛ فاشمل كافة الرعايا بها بالصيانة والعناية، وعمهم بتام الحفظ وابسط عليهم ظل العدل والأمنة، وسر فيهم بالسيرة العادلة الحسنة، وساو في الحق بين الضعيف والقوي، والرشيد والغوي، والملي والذمي، والفقير والغني، واعتمد من فيها من الأمراء والمميزين، والأعيان المقدمين والشهود المعدلين، والأماثل من الجناد، وأرباب الخدم من القواد، بالإعزاز والإكرام، وبلغهم نهاية المراد والمرام، وأقم حدود الله على من وجبت بمقتضى الكتاب الكريم، وسنة محمدٍ عليه أفضل الصلاة والتسليم، وتفقد أمور المتعيشين، وامنع من البخس في المكاييل والموازين، وحذر من فسادٍ مدخل على المطاعم والمشارب، وانتهج في ذلك سبيل الحق وطريق الواجب، واحظر أن يخلو رجلٌ بامرأة ليست له بمحرم، وافعل في تنظيف الجوامع والمساجد وتنزيهها عن الابتذال بما تعز به وتكرم، واشدد من أعوان الحكم في قود أباة الخصوم، واعتمد من نصرة الحق ما تبقى به النعمة عليك وتدوم، وأوعز إلى المستخدمين بحفظ الشارع والحارات، وحراستها في جميع الأزمنة والأوقات، وواصل التطواف في كل ليلة بنفسك في أوفى عدة، وأظهر عدة، وانته في ذلك وفيما يجاريه إلى ما يشهد باجتهادك، ويزيد في شكرك وإحمادك؛ والله تعالى يوفقك ويرشدك، ويسددك في خدمة أمير المؤمنين ويسعدك؛ فاعلم ذلك وأعمل به، وطالع مجلس النظر الأجلي الملكي بما تحتاج إلى علمه، إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى هذا النمط كان يكتب سجل ولاية الرقية من أعمال الديار المصرية دون غيرها من سائر الولايات، إذ كانت هي خاص الخليفة كالجيزية والمنفلوطية الآن، وكان واليها هو أكبر الولاة عندهم لذلك.
وأما الوظائف الدينية.
فمنها- ما كتب به القاضي الفاضل عن العاضد بولاية قاضٍ: من عبد الله ووليه عبد الله أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى القاضي المؤتمن الأمين، علم الدين، خالصة أمير المؤمنين، وفقه الله لما يرضيه، وسدده فيما يذره ويأتيه، وأعانه على ما عدق به ووليه.
سلامٌ عليك فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على جده سيد ولد آدم، وعالم كل عالم، ومبقي كلمة المتقين على اليقين، ومعلي منار الموحدين على الملحدين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين، وعلى أمراء المؤمنين، صلاةً تتصل في كل بكرة وأصيل، ويعدها أهل الفضل وأهل التحصيل، ووالى وجدد، وعظم ومجد، وكرر وردد.
وإن أمير المؤمنين لما آتاه الله إياه من نفاذ حكمه ومضاء حكمته، وفوضه إليه من إمامة أمته، وأفاضه عليه من أنوارٍ كشفت غمامة كل غمة، وشردت بعدله من بسطة ظلم وسطوة ظلمة، وأظهره له من حقٍ نصب للنصر علمه وللهداية علمه، وأيده به من كل عزمة فتكت بكل أزمة، ووكل به هممه من إتمام نعمة وابتداء نعمة، وأطلق به يده من معروف روض الآمال صوب مدراره، وبدت على الأحوال آثار إيثاره، وأخذ به الخصب من المحل ثاره واستقال به الرخاء من وهدات عثاره، وعضد به أفعاله من أمور التوفيق اتباعاً واقتضاباً، وألهمه من موالاة الآلاء التي لا تذهب عهود عهادها انقضاءً ولا انتضاباً، ويسر له عزيمةً من الآراء التي لا تكسب إلا حمداً أو ثواباً؛ يختص بإحسانه من ينص الاختبار على أنه أهلٌ للاختيار، وتفيض الأحوال من حوالي أوصافه ما يديم المطار في الأوطار، وينعم على النعمة بإهدائها إلى ذوي الاستيجاب، ويصطنع الصنيعة بإقرارها في مغارس الاستطابة والاستنجاب، ويرشح لخدمه من عرف ذكره بأنه فائح، وعرف عرفه ناصعٌ ناصح، ويبوئ جنان إنعامه من أحسن عملاً، واستحقت منزلته من الكفاية أن تكون له بدلاً، ولم تبغ تصرفاته في كل الأحوال عنها حولاً، ودرجته خصائصه العلية فاقتعد صهوات الدرجات العلى، واستحق بفضل تفضيله أن يولي الجميل جملاً، وعرضت خلاله على تعيين الانتقاد فاقتضاها ولا يتضاهى، وزويت مسالك الغناء بصدره فضاهى فضاها.
ولما كنت أيها القاضي المشتمل على هذه الخلال اشتمال الروض على الأزاهر، والأفق على النجوم الزواهر، والعقود على فاخر الجواهر، والخواطر على خطراتها الخواطر، والنواظر على ما تصافح من الأنوار وتباشر، المثري من كل وصفٍ حسن، المتبوع الأثر بما فرض من المحاسن وسن، الكالئ ما تستحفظ بعين كفايةٍ لا يصافح أجفانها وسن، الأمين الذي تريه أمانته متاع الدنيا قليلاً، وتصحبه ناظراً عن نضارتها كليلاً، المؤثر دينه على دنياه، المطيع الذي لا يسلو العصبة عن هواه، المخلص النية في الولاء ولكل امرئ ما نواه الناصح الذي ينزه ما يلابسه عن لباس الريب، البعيد عن مظان الظنون فلا تتطلع الأوهام منه على عب غيب، النقي الساحة أن يغرس بها وصمة، التقي الذي لا تخدع يده عن التمسك ما استطاع بحبل عصمة، المحتوم الحقوق بأن يستودع دهر الوفاء، المتوسل بموات توجب له الإيفاء على الأكفاء، المستقيم على مثل الظهيرة كهلاً ويافعاً، الشافع بنفسه لنفسه وكفى بالاستحقاق شافعاً؛ وحسبك أنك حملت الأمانة وهي حفظ الكتاب، وأطلق الله به لسانك فشفيت القلوب من الأوصاب، ووصل به سببك إلى رحمته يوم تنقطع الأسباب، وأصبح محلك في الدارين آهلاً أثيراً، وكنت ممن قال الله فيه: {وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}.
وقد خالطت في مواكب أمير المؤمنين المعقبات التي من بين يديه ومن خلفه، وقربت من مجالسه المشتملة منه على عنوان عناية الله بالبرية ولطفه، ونوره الذي كلت العيون عن كشفه والحيل عن كسفه، وتقدمت بخدمة الخلفاء الراشدين، أمراء المؤمنين، إلى سوابق سبقت بها في كل مضمار، وجمعت في المخالصة فيها بين الإعلان والإضمار، وسبر التجرب حالتيك بصحائف خبر، واستمرت بك الحال في القرب منهم وفي تقلب الأحوال عبرة، وتدرجت في حجب القصور، وبدت لك الغايات فما كنت عنها ذا قصور؛ فكانت التقدمة لك مظنونةً وبك مضمونة، وسريرتك على الأسرار المصونة مأمونة، وما اعوجت معالم إلا وكان تقويمها بتقويمك، ولا استيقظت حيلةٌ فخاف الحق سبيل غيها بتهويمك؛ وإن كل قائلٍ لا يملك من إصغاء أمير المؤمنين ما تملك بتلاوة الذكر الحكيم، ولا يسلك من قلبه ما تسلك بمعجز جده العظيم؛ فأنت تخدم أمير المؤمنين بقلبك موالياً، وبلسانك تالياً، وبنظرك مؤتمناً، وبيدك مختزناً، لا جرم أنك حصدت ما زرعت طيباً، وسقاك ما استمطرت صيباً، وزفت لك الأيادي بكراً وثيباً، وحللت يفاع المنازل مستأنساً إذا حل غيرك وهداتها متهيباً.
فأما حرمتك التي بوأتك من الاختصاص حرماً، وجعلتك بين الخواص علماً، وتوالي يدك بلمس ما حظي من الملابس بصحبة جسده الطاهر، واشتمل على زهر النضار وزهر الجواهر، فذلك جارٍ مجرى السكة والدعوة في أنهما أمانةٌ تعم العباد والبلاد، وهذه أمانة تخص النفوس والأجساد، ولك مما في خزانته وكالة التخيير والتعيير، وعن أغراضه الشريفة سفارة الإفراج والتغيير، وهذه موات تجعل سماء السماح لك دائمة الديم، وتسكن آمالك في حرم الكرم، وتعقد بينك وبين السعادة أوكد الذمم، وتتقاضى لك جدود الجد بقدم الخدم.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه، الذي زهي الزمان به فتاه، ووزيره، الذي عز به منبره وسريره، السيد الأجل أفضل الملوك قدراً، وأكثرهم قدرة، وأعظمهم صبراً، وأدربهم نصرة وأفيضهم جوداً غمراً، وأكشفهم لغمرة، وأمضاهم على الهول صدراً، وأردهم لكرة، وأثبتهم جأشاً وصليل السيوف يخطب والمقاتل تسمع، وأوضحهم في استحقاق المجد حجة شرعتها الرماح الشرع، وأركبهم في طاعة أمير المؤمنين لمشقه، وأشدهم وطأةً على من جحد نوره وعق حقه، فالدنيا مبتسمةٌ به عن ثغور السرور، والملك بكفالته بين وليٍ منصور وعدو محصور، فأسفرت سفارته عن أنك من أمثل ودائع الصنائع وأكفاء الاستكفاء، وأعيان من يحقق اختيارهم وفضلهم العيان، وأفاضل من هو أهل لإسداء الفواضل؛ وأن الصنيعة ثوب عرك داره، وجارٌ قد عقد بين شكرك وبينه جواره، وقرر لك تقدمةً في الحضرة لأنك فارسهم اسماً وفعلاً، وأولهم حين تتلو وحين تتلى، والنظر على المؤذنين بالقصور الزاهرة، والمساجد الجامعة، وبالمشاهد الشريفة: لأن الأذان مقدمةٌ بين يدي القرآن، وأمارةٌ على معالم الإيمان، والنظر في تقويم ما يرد إلى الخزانة العالية الخاصة والعامة من الملابس على اختلاف أصنافها، والأمتعة على ائتلاف أوصافها، ومشارفة خزانة الفروش ليكمل لك النظر في الكسوات التي تصان للملبوس، والكسوات التي تبتذل للجلوس، وخزن بيت المال الخاص ليكمل لك النظر في الذهب مصوغاً ومرموقاً، وخزناً وتقويماً؛ واستصوب أمير المؤمنين ما رآه، وأمضى ما أمضاه، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء أن يكتب هذا السجل لك بذلك.
فاعرف قدر ما عدق بك من أمور دينٍ ودنيا، وخدمٍ لا تقوى عليها إلا بلباس التقوى، وأنك قد أصبحت لجنات أنعم أمير المؤمنين رضواناً، ويدك للفظ إحسانه لساناً، وباشر ذلك مستشعراً خشية الله في سرك وجهرك، متحققاً أنه غالبٌ على أمرك، مدخراً من الأعمال الصالحة ما يبقى عند فناء ذخرك، مستديماً للنعمة بما يقيدها من شكرك، وما يصونها أن تبتذل من بشرك، عالماً أن التقية حلية الإيمان، وضمان الأمان، وزاد أهل الجنان إلى الجنان، بقول الله سبحانه في كتابه العزيز: {وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزَّاد التَّقْوى}.
وأخلص نيتك في خدمة أمير المؤمنين فمع الإخلاص الخلاص، وأد له الأمانة فإن أداءها أطيب القصص يوم القصاص، وقم في خدمته المقام المحمود، واستدم بها صعود ركاب السعود، فقد عرفك الله بركة النصيحة وعوائدها، وأنجزت لك الآمال المنبسطة مواعدها، واستشرف أحوال القراء فهم أحق قومٍ بالتهذيب، ولزوم أساليب التأديب، فمن كان للآيات مرتلاً وللدراسة متبتلاً، وبأثواب الصلاح متقمصاً، وبخصائص الدين متخصصاً، ولما في صدره بقلبه لا بلسانه حافظاً، وعلى آداب ما حفظ محافظاً، فذلك الذي تشافه تلاوته القلوب، وتروض بأنواء المدامع جدوب الذنوب، ومن كان دائم الإطالة في سفر البطالة، ساتراً لأنوار المعرفة بظلم الجهالة، فحقٌ عليك أن تصرفه وتبعده، وتجعل التوبة للعود موعده؛ وكذلك المؤذنون فهم أمناء الأوقات، ومتقاضون ديون الصلوات، ولا يصلح للتأذين إلا من كملت أوصاف عدالته، وأمنت أوصام جهالته.
وأما الأمانة في الأموال التي وكلت إلى خزنك وختمك، والأمتعة التي وكلت إلى تقويمك وحكمك، فأن تؤدى بسلوك أخلاقك وهي الأمانة، واتباع طباعك وهي الإباء للخيانة، وأن تستمر على وتيرتك، ومشكور سيرتك، ومشهور سررتك، ومنير بصيرتك، وأن لا تؤتى من هوًى تتبعه، ولا حيفٍ تبتدعه، ولا قويً تنخدع له، ولا ضعيف تخدعه، ولا من محاباةٍ وإن أحببت، ولا من مداجاة كيفما تقلبت، واذكر ما يتلى من آيات الله في مثلها: {إنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إلى أهْلِها} والله يتولى توفيقك وتوقيفك، ويديم على ما يحب تصريفك؛ إن شاء الله تعالى.
ومنها- ما كتب به القاضي الفاضل أيضاً، وهي: من عبد الله ووليه إلى آخره.
أما بعد، فإن رتب الولايات متفاوتة الأقدار، متباينة الأخطار، وكل شيءٍ منها عند أمير المؤمنين بمقدار، ولها رجال مشرفو الأقدار، ومحالها بحضرته مقدرةٌ تقدير منازل الأقمار، ومحال الأولياء بمقامه محال الأهلة تتنقل بين أول النماء إلى انتهاء الإبدار؛ ومن أميزها قدراً، وأحقها بأن يكون صدراً، وأن يشرح لمن حله صدراً، وأن يسوق إليه الخاطب من استحقاقه مهراً، ولاية مدينة مصر: لأنها المجاورة لمحل الخلافة، وكل مصرٍ بالنسبة إليها معها بالإضافة، وهي خطبة النيل، وفرضة المنيل وبها إذا هجمت الخطوب المنيل، ومنها من عثرات الأيام المقيل، ومنها تؤنس أنوار الإمامة على أنها تتوضح بغير التأميل وبدء التأميل، ولا يؤهل لولايتها إلا كل حاملٍ لعبئها الثقيل، ولا تسند الخدمة فيها إلا لكل مثرٍ من ذخائر السياسة غير فقير ولا مقل، ولا يتوقل رتبتها إلا من تكون به الرتب منيرة ومحاسنه لا تمل مما يمل، ولا يمتطي صهوتها إلا من لا يطأطيء للأطماع عزة نزاهته ولا يذل، ولا يرتقي درجتها إلا من يهتدي بأعلام الديانة التي لا تضل، ولا يقرأ سجلها إلا لمن يطوي مظالم الرعية طي الكتاب للسجل.
ولما كنت أيها الأمير ممن توقدت هذه الأوصاف فيه توقد النار في ذرى علمها، وأوجد معاني معاليها وأنقذها من إسار عدمها، وارتقى إلى هضبات الرياسة المنيعة بما جعل خلاله المسلم فضلها مثل سلمها، ونأولته الدراية عناني سيفها وقلمها، وشهدت الأيام بتقدم قدمه في مراتبها وقدمها، وأمنت الصواب أن يتبع أفعاله إذا أمضاها بعيب بذمها، وكتبت أقلام رماحه سطور الطعن في صدور العدا مستمدة من دمها، وتجشم مشقات المعالي فآثرته تعفي راحة بجسمها، واجتمعت فيه صفات المحاسن المتفرقة فقضى عليها بتجسيمها، وتصدر الدرجات المحصنة من مطالع الحاضر لحظه من رقتها ونسيمها، وتعرضت ذخائر المحامد لما في طبعه من اقتناصها ونعيمها، وقرت عين المنازل فما زوت وجه إقبالها ولا بسطت راحة تظلمها، وانثنت إليه عقائلها المصونة فما ثنت دون ديانته عنان تلومها، وأثرك في كل ولاية مشكور، وسعيك في كل غاية غير مقصور، وغناؤك في المهمات معد مذخور، ومساجلك عن أيسر ما وصلت إليه مدفوع مدحور، وليل شبابك بالكوكب الدري من صولتك منحور، وأفعالك أفعال من لا يجوز غير محرز كسب الأجور، وخلالك خلال من انتظم في سلك الذين يرجون تجارةً لن تبور.
وقد سلفت لك خدم تصرفت فيها وتدرجت، وعرفت بطهر الذكر من رعيتها وتأرجت، وتحوبت من الأوزار على ما يوقع ذنبك وتحرجت، وجريت على أجمل عادة، واقتضيت عند انقضاء شأو الإبداء استئناف شأو الإعادة. ومثل بحضرة أمير المؤمنين لسان أمره، وسيف زجره، السيد الأجل الذي قام بما استكفاه فأحسن وحسن، وصان حمى الملك فأحصن وحصن، وجاد بنفسه في سبيل الله فما ضن، وكان مكان ما أمل عند اصطفائه وفوق ما ظن، وسدد قصوده، فمرقت سهامها وما مرقت عن طاعته، وأطلع سعوده، فأنارت نجوماً لأوليائه ورجوماً لأهل خلاف خلافته، وأطلقت أحكام عدل الله في خلق الله أحكام مراماته وسيف إخافته؛ فالدنيا بيمن إيالته عن مآخذ السراء، وطلقاء الجود بما عملته يده من قيود الإحسان في عداد الأسراء، ورضا أمير المؤمنين عنه كافلٌ له بأن يرضي الله في الأعداء، وملوك الأرض إن فدت اسماء طيبةٌ أنفسها له بالفداء، والدنيا متأرجة بطيب خبره، والعلياء متبرجة بحسن نظره، وبحار التدبير لا تفارق زبد أمواجها إلا بفاخر جوهره، وقوانين السياسة لا توجد مسندة إلا عن اتباع أثره، ولاحظ لمحاربه إلا سلمه بعثاره وتثلمه بعثيره، فأثنى عليك بحضرته واصفاً، وثنى إليك عنان عنايته عاطفاً، ورأى تقليدك ولايتها معرباً باستحقاقك عارفاً- خرج أمر أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بتقليدك ولاية المعونة والحسبة بمدينة مصر والجيزة والقرافة، إنافةً بك عن النظراء، وإبانةً عما لك من جميل الآراء، وتطريةً لحظك بما حصل به من الإطراء، ورعايةً لما لك من الانتهاء إلى أقصى غايات الإحسان والإجراء، وإيجاباً لما تتوسل به من العناء، وذخائر الغناء والإثراء، وإشادةً لقدرك الذي أشاده ما أنت عليه من الإيواء إلى ظل النزاهة والاستيناء.
فتقلد ما قلدته من هذه الخدمة، وارفل بما ضفا عليك من ملابس هذه النعمة وبما صفا لديك من موارد هذه الجمة، وقدم تقوى الله أمامك، واتبع وصيتها التي استعمل الله بها إمامك؛ فبها النجاة مضمونة، والرحمة متيقنة لا مظنونة، قال الله سبحانه في كتابه المكنون: {ويُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقوْا بمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ ولا هُمْ يَحْزَنُون}.
واعتمد المساواة بين الناس فيما هو حكم، والنظر بالعدل في كل ما هو ظلم، ولا تجعل بين الغني والفقير في الحق فرقاً، واسلك فيهم طريقاً واحداً فقد ضل من سلكفيهم طرقاً، واشمل أهل المدينة بطمأنينة تنيم الأخيار وتوقظ الأشرار، وأمنةٍ تساوي فيها بين ظلام الليل ونور النهار: لتكون ولايتك لهم موسماً، وموردها لثغور الأمر مبسماً، وأنصف المظلوم واقمع الظالم، وكن لنفسك زعيماً بنجاتها فالزعيم لها غارم، وانه عما نهى الله عنه من الفحشاء والمنكر، أمر بالمعروف وحسبك أن تعرف به وتذكر، وخذ في الحدود بالاعتراف أو الشهادة، ولا تتعد حدها بنقص ولا زيادة؛ وكما تقيمها بالبينات، فكذلك تدرؤها بالشبهات، وفي هذه المدينة من أعيان الدولة ووجوهها، وكل سامي الأقدار نبيهها، وأرباب السيوف والأقلام، والمعدودين في العلماء والأعلام، والمعدلين الذين هم مقاطع الأحكام، والتجار الذين هم عين الحلال والحرام، والرعية الذين بهم قوام العيش في الأيام، من يلزمك أن تكون لهم مكرماً، ولإيالتهم محكماً، ومن ظلمهم متحرجاً متأثماً، ولسانهم في اشكر عن لسانك متكلماً، وإلى قلوبهم بجميل السيرة متحبباً، ولمساخطهم- ما لم تسخط الله- متجنباً. واشدد من المستخدمين بباب الحكم في إشخاص من يتقاعد عن الحضور مع خصمه، ويتبع حكم جهله فيخرج عن قضية الشرع وحكمه، وأوعز إلى أصحاب الأرباع بإطلاعك على الخفايا، وإبانة كل مستور من القضايا، وأن يتيقظوا لسكنات الليل وغفلات النهار، وخذهم في الليل بما التزموه من الحرس من مكايد اللصوص والدوار، وأيقظهم لأن يتيقظوا فربما اجتنى ثمر الأمن من غرس الحذار، وإذا ظفرت بجان قد أوبقه عمله، وطمح إلى الفساد أمله، فاجمع له بين التنكيل والتوكيل، أو ذي ريبة إن زاد ريبةً بالحبس الطويل، وإلا فطالع بأمره إن كان من غير هذا القبيل، وواصل التطواف في العدد الوافر، والسلاح الظاهر، في أرجاء المدينة وأطرافها، وعمر بسرك سائر أرجائها وأكنافها، وانظر في الحسبة نظر من يحتسب ما عند الله خيرٌ وأبقى ومن يرغب في الأجر ويعرض عن شعار لباس التمويه واللبس، وامنع أن يخلو رجل بامرأة ليست بذات محرم: لتكون قد سلمت وسلمت من شبهتي المطمع والمطعم، واستوضح آلات المعاملات وغيرها، فبها تخف الموازين أو ترجح {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرضُ غَيْرَ الأرضِ والسَّموات}، واعتمد في تهذيبها ما تحسن فيه للمسيء والمحسن، لأنك تكف أحدهما عن عمل المتهافت وعن المهوب الممعن.
وتقدم بنفض الأذى عن جادة الطريق، وانه أن تحمل دابةٌ أكثر مما تطيق، وتفقد الجوامع والمساجد بالتنظيف إبانةً لجمالها، وصيانةً من ابتذالها، ولا تمكن أحداً أن يحضرها إلا مؤدياً للفرض أو منتظراً أو متطوعاً، أو عالماً أو متعلماً أو مستمعاً، فإنها أسواق الآخرة، ومنازل التقوى العامرة؛ وأجر الأمور على عاداتها، واسترشد في طارئاتها ومشكلاتها؛ فاعلم هذا واعمل به. إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلٍ بولاية قاضٍ بثغر الإسكندرية، من إنشاء القاضي الفاضل، من هذه الرتبة، وهي: من عبد الله ووليه إلى آخره.
أما بعد، فالحمد لله الذي نشر راية التوحيد وأعز ملة الإسلام، وهدى بكرمه من اتبع رضوانه سبل السلام، رافع منار الشراع وحافظ نظامه، ومجزل الثواب لمن عمل بأمره في تحليل حلاله وتحريم حرامه؛ وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وساوى بين الخليقة فيما كان حكماً، وقال جل من قائل في كتابه العزيز: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وهُوَ مُؤْمِنٌ فلا يَخَافٌ ظُلْماً ولا هَضْماً}. سبحانه من خالق لم يزل رؤوفاً ببريته، عادلاً في أقضيته، مضاعفاً أجر من خشيه وعمل بخيفته، موفراً ذلك له يوم يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذٍ ببنيه وصاحبته وأخيه وفصيلته.
يحمده أمير المؤمنين أن أفاض عليه أنواراً إلهية، وتعبد البرية بأن جعلها بطاعته مأمورةً وعن مخالفته منهية، واستخلف منه على الخليقة القوي الأمين، وآتاه ما لم يؤت أحداً من العالمين، ويسأله أن يصلي على جده الذي عم إرساله بالرحمة، وكشف بمبعثه كل غمة، وجعل شرعه خير شرع وأمته خير أمة، فأحيا من الإيمان ما كان رميماً، وهدى بالإسلام صراطاً مستقيماً، وخاطبه الله فيما أنزل عليه بقوله: {إنَّا أنْزَلْنَا إلَيْكَ الكتَابَ بالحقِّ لتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أراكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ للخِائِنينَ خَصِيماً} وعلى أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي وفر الله نصيبه من العلم والحكمة، وجعل خلافته في أرضه لا تخرج عن ذريته الهداة الائمة، وعلى آلهما الأطهار، وعترتهما السادة سلاماً باقياً إلى يوم الدين.
وإن أمير المؤمنين لما أفرده الله به من المآثر، وتوحده به من المناقب والمفاخر، وخصه بشرفه من الإحسان إلى أوليائه بالإنعام إليهم في الدنيا والشفاعة لهم في اليوم الآخر، يرتاد لجلائل الخدم من يشار إليه ويومى، ويختار لتوليها من يكون بأثقالها ناهضاً وبأعبائها قؤوماً، ويسند أمرها إلى من لا يتمارى في سؤدده ولا يختلف في فضله، ويعدق شؤونها بمن عدقت الرياسة به وبأسلافه من قبله، فيكون إذا شرف بها عرف منزلتها ومحلها، ووقع الاتفاق على التمثل بقوله: {وَكَانُوا أحَقَّ بها وأهْلَها}.
ولما كنت أيها القاضي المكين من البيت الذي اشتهر قدره، وارتفع ذكره، وحلت رتبته، بأوصاف كلٍ من أهله في قوله وفعله، وترددت رياسته، في عددٍ كثير لا عهد للرياسة بالتردد في مثله، وكانت لك ولمن مضى من أسلافك آثارٌ في الخدم خلدت لكم مجداً يبقى، وأقرت من الحديث به ما لا يسمو إليه النسيان ولا يرقى؛ فكل ما تتولونه متجمل بكم ولا يريد معكم زيادة، وكل ما يعتمد فيه عليكم قد نال مطلوبه وبلغ البغية والإرادة، والذي يخرج عن نظركم يتلهف عليكم حنيناً إليكم واشتياقاً، وإن رد إليكم لم يأل تشبثاً بكم وتمسكاً واعتلاقاً؛ هذا إلى ما لكم من الحرمات المرعية، والموات التي ليست بمنسية، والسيد الأجل الأفضل الذي حسبه من المفاخر قيامه بحق الله لما غفل الملوك عنه وقعدوا، واستيقاظه بمفرده حين ناموا دون استخلاصه مما عراه ورقدوا؛ وإن انتصابه آيةٌ أظهرها الله للملة، وحسم بها في رفع منار الدين كل علة، فإذا أنفقت الأعمار في بيان أوصافه كانت جديرةً بذلك حرية، وإذا ذكرت آثاره في الإسلام كان العلم بكرمها لاحقاً بالعلوم الضرورية، فما ينسب المتوسع في التقريظ له إلى تغال، ولا تضييع وقت يقضى في اهتمامٍ بالثناء على مناقبه واشتغال، يواصل الثناء عليك والشكر لك، ويتابع من ذلك ما إذا ذكر اليسير منه شرفك وجملك، ويصف ما كان لأخيك القاضي المكين- رحمه الله- من الاجتهاد في المناصحات، ومن الأفعال الحسنة والأعمال الصالحات، ومن الوجاهة التي أحلته مكاناً متجاوزاً غاية الآمال الطامحات، ما رفعه عن طبقات كثير من سادات الناس، وجعل حاسديه في راحةٍ لما شملهم من دعة الياس. وإنك أيها القاضي المكين، الأشرف الأمين، قد بلغت مداه في الجلالة، وورثت مجده لا عن كلالة، وحويت فضله وفخره، وقفوت أثره وأحييت ذكره، وحزت خلاله الجميلة وأفعاله الرضية، وحصلت الفضيلتين الذاتية والعرضية، ولذلك تقررت نعوتك القاضي المكين لاستيجابك فيما تقضي به جزيل الثواب، ولتمكن أفعالك في محل الصواب، والأشرف الأمين لشرف نفسك، وكون أمانتك في حاضر يومك على ما كانت في ماضي أمسك، وتاج الأحكام لأن ما يصدر منها سامي المنهاج، وقد ارتفع محله كما ارتفع محل التاج، وجمال الحكام لأنك لما وليت ما ولوا جملتهم إذ فعلت من الواجب فوق ما فعلوا، وعمدة الدين لأن من كان مثلك ركن إليه الدين واستند، وتوكأ على جانبه واعتمد، وعمدة أمير المؤمنين لأنك ذخيرةٌ لدولته، ونعم البقية الصالحة لمملكته.
ومعلوم أن ثغر الإسكندرية- حماه الله تعالى- الثغر الرفيع المقدار، الذي هو قرة العين للإسلام وقذًى في عيون الكفار، ومحله مما تتطامن له معاقل التوحيد وحصونه، وهو مشتملٌ من الفقهاء والصلحاء والمرابطين وأهل الدين على من لم يزل يحفظه ويصونه، وإليه تتنال السفار، وتتردد التجار، وهو المقصود من الأقطار القصية النائية، ومن البلاد القريبة الدانية؛ وما زالت أحواله جاريةً بنظرك على أحسن الأوضاع وأفضلها، وأوفى القضايا وأكملها؛ وما كان استخدام غيرك فيه إلا ليظهر إشراق شمسك، وليزول الشك في تبريزك على جنسك، وليتبين فضل مباشرتك وتوليك على أن ذلك لم يكن مكتتماً، وليتحقق أن عقد صلاحه لا يكون بتولي غيرك متسقاً ولا منتظماً.
وقد رأى أمير المؤمنين إمضاء ما رآه السيد الأجل الأفضل من إقرارك على الحكم والقضاء: لاطلاعك من ذلك على سره، ونفاذك في جميع أمره، ولخبرتك به ودربتك، ولاستقلالك ومضائك ومعرفتك؛ وإنك إذا استمررت على عادتك، غنيت عن تجديد وصيتك؛ فتماد على سنتك، ولا تخرج عن سبيلك ومحجتك؛ وأنت تعلم أن الشهود بهم يعطي الحكام ويمنعون، وبأقوالهم يفصلون ويقطعون، وبشهاداتهم تثبت الظلامات وتبطل، وعليها يعتمد في انتزاع الحقوق ممن يدافع ويمطل؛ فواجبٌ أن يكونوا من أتقياء الورى، وممن لا يتبع الهوى؛ فاستشف أحوالهم، واستوضح أمورهم وأفعالهم؛ فمن كان بهذه الصفة فأجره على عادته في استماع مقالته، ومن كان بخلافه فقف الأمر على عدالته، واحسم مادة الضرر في قبول شهادته؛ وقد جعل لك ذلك من غير استئذان عليه، ولا اعتراضٍ لك فيه؛ ولا تقرب أحداً من رتبة العدالة، وارفعها بإزالة الأطماع فيها عن الإهانة والإذالة، واغضض من أبصار المتطلعين إليها، والمتوثبين عليها، بالتطارح على الجهات، والتماسها بالعنايات التي هي من أقوى الشبهات؛ وإن ورد إليك توقيعٌ وتزكيةٌ من الباب فأصدره في مطالعتك ليحيط العلم به، ويخرج إليك من الأمر ما تفعل على حسبه؛ وافعل في دار الضرب وأحوال المستخدمين والمتصرفين على ما أتت به العالم البصير، والعارف الخبير.
وقد جعل لك إضافةٍ إلى ذلك النظر في أمر جميع هذا الثغر المحروس وأسند إليك ووكل إلى صائب تدبيرك، وإلى حسن تهذيبك، وإلى بركة سياستك، وإلى عملك فيه بمقتضى ديانتك؛ وصار جميع المستخدمين به من قبلك متصرفين، ولأوامرك متوكفين، وعند ما تحده واقفين، ولمراسمك متابعين غير مخالفين؛ فمن أحمدته منهم وعلمت نهضته فأجره على عادته ورسمه، ومن كان بخلاف ذلك فاستبدل به وامح من الخدمة ذكر اسمه؛ فلا يد مع يدك، ولا عدول عن مقصدك؛ والاستخدام في هذا الأمر قد أسند إليك ورد، وكونهمن جهة غيرك أغلق بابه وسد؛ فلا تصرف فيه إلا لمن صرفته، ولا خدمة إلا لمن استخدمته.
وتأكيد القول عليك لا يزيدك حرصاً، والمعرفة بهمتك وخبرتك تغنيك عن أن توصى؛ والذي تقدم ذكره في هذا السجل إرهاف لحدك، وإعلاءٌ لجدك، وإطلاع لكوكب سعدك؛ والله يتولى تأييدك وتوفيقك، ويوضح إلى الخير سبيلك وطريقك؛ فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النظر بأمور خدمتك، وما تحتاج إلى عمله في جهتك. إن شاء الله عز وجل.
وأما السجلات المكتتبة بالوظائف الديوانية، فكما كتب به بعض كتابهم بولاية ديوان المرتجع: لسني الدولة وجلالها، ذي الرياستين، أبي المنجى سليمان بن سهل بن عمران.
أما بعد، فإنه من حسنت آثاره في مناصحات الأئمة الخلفاء، وارتفع محله في طاعتهم عن الأنظار والأمثال والأكفاء، وظهرت بركات أفعاله فيما يتولاه ظهور الشمس ليس بها من خفاء، وباهى بتدبيره كل ما يباشره من أمر خطير قدره، واستدعت من الثناء والإطراء ما يتأرج نشره ويتضوع ذكره، وتساوى عنده القول والعمل ونافس فيه الخبر الخبر، ورتبه مرتبه مقدماً على من مضى من طبقته وغبر، ووسم الأعمال بسمات في العمائر تضاف إليه وتنسب، وغدت الخدم تزهى به وتعجب، وهو لا يزهى ولا ينظر ولا يعجب. كان رد المهمات إليه حسن نظرٍ لها وإذا حظرت جلالة توليها على غيره أضحى نفاذه منتهجاً له محلها، وكان التنويه به حقاً من حقوقه وواجباً من واجباته، والمبالغة في تكريمه وتفخيمه مما يتعين الانتهاء فيه إلى أقصى آماده وأبعد غاياته.
ولما كنت في متولي الدواوين، مشهور الشأن والقدر، وحالاً من مراتب الكفاة المقدمين، في حقيقة الصدر، إن انتظموا عقداً كنت فيه الواسطة، وإن قسط غيرك على معامل لم تكن أفعالك قاسطة؛ ولك السياسة التي ظلت ساحاتها رحاباً، والرياسة التي من وصفك بها فما تملق ولا داجى ولا حابى، والصناعة البارعة التي تشهد بها الطروس واليراع، والأمانة الوافية التي ارتفع فيها الخلاف ووقع عليها الإجماع، والتصرف في أنواع الكتابة على تباين ضروبها، والاستيلاء على ظاهرها ومستورها وواضحها ومكتومها، والأخذ لها عن أهل بيتك الذين لم يزالوا فيها عريقين، ولم ينفكوا في مداها سابقين غير ملحوقين؛ وقد زدت عليهم بما حزته بهمتك، ونلته بقريحتك، حتى بلغت منها ذروةً شامخةً علية، وحصلت فضيلتين فضيلةً ذاتية وفضيلةً عرضية، وأمنت من يباريك ويساجلك، وكفيت من يناوئك ويطأولك؛ وكان الديوان المرتجع عن بهرام وغيره من أجل الدواوين وأوفاها، وأحقها بالتقديم وأولاها: لأنه يشتمل على نواحً مختارة، ويحتوى على ضياعٍ مكنوفة بالعمارة؛ وقد زاده ميزةً على غيره كونك ناظراً فيه، وأنك مدبر أمره ومستوفيه.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره السيد الأجل الأفضل الذي عز بحسن سيرته الملك وتضاعف بهاؤه، وضمنت مصالح الأمور تدبيراته وآراؤه، وظلت شؤون الدولة بما يقرره منتظمةً مستقيمة، وغدت الميامن والسعود مخيمةً في داره مقيمة، واتفقت على الثناء عليه مختلفات الأقوال، وقضت مهابته بحماية النفوس وصيانة الأموال، وفاوضه في أمر هذا الديوان فأفاض في وصفك وشكرك، وأطنب في تقريظك وإجمال ذكرك، ونبه على الحظ في توليك إياه، وواصل من مدحك بما يتضوع عرفه ويطيب رياه، وقرر لك من توليه ما يصل سبب الخيرات بسببه، وميزك بما لم يطمع أحدٌ من كافة متولي الدواوين به، فلم يجعل فيه يداً مع يدك، ولا نظراً إلا لك بمفردك؛ فلا يرفع أحد شيئاً إلى غير ديوانك من حساب ما يجري في أعماله، ولا معاملة لبيت المال إلا معك فيما يحل من أمواله، فأمضى أمير المؤمنين ذلك وأمر به، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك الديوان المرتجع المذكور: ثقةً بأنك تأتي فيه على الإرادة، وتتأتى لبلوغ الغرض وزيادة؛ فاستخر الله تعالى وباشر أموره بجدك المعهود، وشمر عن ساق عزمك المشهود وسعيك المحمود، واجر على رسمك في العمل بما يحفظ أوضاعه، ويزجي ارتفاعه، ويزيح علته، ويغزر مادته، فاعتقد مواصلة الليل والنهار في مصالحه فرضاً إذا اعتقدها غيرك نفلاً، واجعل اجتهادك لاستخراج أمواله وكن عليها إلى أن يصل إلى بيت المال قفلاً، واستنظف ما فيه من تقاوٍ وباق، وافعل في تدبيره ما يجري أموره على الوفاق، واستخدم من الكتاب من تحمده وترتضيه، ونصهم إلى الأفعال التي تستدعي شكرك لهم وتقتضيه، ولا تسوغ لضامنٍ ولا عاملٍ أن يقصر في العمارة، واعتمد من ذلك ما يكون على كفايتك أوضح دلالة وأصح أمارة.
وقد أمر أمير المؤمنين أن تجري الحال على ما كانت عليه من دخول ذلك وبيعه بغير مكس في جميع الأعمال، وأزاح مع ذلك علتك ببسط يدك وإنفاذ أمرك وإمضاء قولك، وإفرادك بالنظر من غير أن يكون لأحدٍ من متولي الدواوين على اختلافهم نظرٌ معك، فتماد في حسن تدبيره على سنتك، ولا تخرج عن مذهبك وطريقتك؛ والله يوفقك ويسعدك، ويعينك ويعضدك؛ فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله عز وجل.
المرتبة الثالثة من المذهب الأول من سجلات ولايات الفاطميين أن تفتتح بالتصدير أيضاً:
وهو من عبد الله ووليه إلى آخر التصلية على النبي صلى الله عليه وسلم وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ ثم يؤتى بالبعدية، لكن من غير تحميد، بل يقال: أما بعد فإن أولى أو إن أحق ونحو ذلك؛ ويذكر مناقب المولى ثم يأتي بالوصايا واعلم أن هذه المرتبة من السجلات يشترك فيها أرباب السيوف وأرباب الأقلام من أصحاب الوظائف الدينية والوظائف الديوانية.
فأما سجلات أرباب السيوف فكأصحاب زموم طوائف الرجال، يعني التقدمة عليهم والولايات ونحو ذلك، على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخ ولاياتٍ لأرباب السيوف بالحضرة من هذه المرتبة.
نسخة سجل بزم طائفة، من إنشاء القاضي الفاضل، وهي: من عبد الله ووليه إلى آخره.
أما بعد، فإن أمير المؤمنين يصطنع من يرتضيه لتأليف عبيده وضمهم، ويستوقفه للنظر في تقديم رجال مملكته وزمهم، ويختار من يجتبيه لإحراز مدحهم بالبعد من موجبات ذمهم، ولا يؤهل لذلك إلا من توسل بالغناء وتقرب، واستقل بالأعباء وتدرب، وأطلق حده التوفيق فمضى وتذرب، وأودع الإحسان فما زايل محله ولا تغربن ولابس الأمور ملابسة من فطن وجرب؛ وقد أيد الله دولته بفتاه وأمينه، وعقده وثمينه، السيد الأجل الذي غدت آراؤه للمصالح كوافل، وأذكى للتدبير عيون حزم غير ملتفتاتٍ عنه ولا غوافل، وأطلع من السعد نجوماً غير غوارب ولا أوافل، وقام بفرائض النصائح قيام من لم يجوز فيها رخص النوافل، وتحدثت بأفعاله رماحه في المحافل فما راعت الجحافل.
ولما مثل بحضرة أمير المؤمنين أجمل ذكرك وأطابه، وقصد بك غرض الاصطناع فأصابه، واستمطر لك الإنعام الغدق السحاب فأجابه، ووصف ما أنت عليه من شهامةٍ شهدت وشهرت، وصرامةٍ تظاهرت وظهرت، وكفايةٍ برعت وفرعت، ونزاهةٍ استودعت الأمانة فرعت، ومناصحةٍ انفردت بوصفها، وتحلت واسطة عقد صفها، وجهادٍ لم يزل به القرآن مغرياً، والصعب المقاد مذعناً والخطب عابياً في قيادها مدعياً، وقرر لك الاستخدام في زم الطائفة فأمضى تقريره، واستصاب تدبيره، وخرج أمره إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل وإيداعه ما تهتدي به، وتعمل بتأديبه؛ فتقلد ما قلدته من ذلك عاملاً بالتقية فإنها الحجة والمحجة، والجنة والجنة، والمدد السليم، والمربح القويم، والنعمة والنعيم، يقول الله سبحانه في كتابه الحكيم: {وَأمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّه ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فإنَّ الجَنِّةَ هِيَ المَأْوى}؛ فانهض بشروط هذا الزم نهوضاً يؤدي عنك من النصح مفروضاً، ويجعل لك كل يوم كتاب شكر مفضوضاً، وسس هذه الطائفة بما يوليها دواعي الوفاق، ويحميها من عوادي الافتراق، واجهد في منافعها مجتلباً، ولأخلاف درها محتلباً، وانتصب لاستشفاف أحوالهم وتعهدها وملاحظة أفعالهم وتفقدها؛ فمن ألفيته إلى فرائض الخدمة مسرعاً، وبنوافلها متطوعاً، وبكرمه عما يشينه مترفعاً، شحذت بصيرته بالتكرمة، ورشحت همته للتقدمة، ومن وجدته لتلك الصفات الزائنة مخالفاً وللصفات الشائنة مؤالفاً، ولنفسه عما يرفعها صارفاً، قومت أوده وثقفته، وأشرفت به على منهج الصراط ووقفته؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلٍ بولاية الفسطاط المعبر عنها بمصر على نحو ما تقدم في ولاية القاهرة، وهي:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين لما خص الله به آراءه من التأييد الذي يسدد سهامها، ويجزل من التوفيق سهامها، وأطلق به يده من أيادٍ تسبق آماد الآمال وتكاثر أوهامها، وألبس الدين ببقائه من مهابةٍ تصير قلوب أعدائه مهامها، وميز به عصره من خصائص نصر لا تطيل الأيام استفهامها ولا تخشى استبهامها، ويسره من نبإ دعوته التي طبقت أنجاد الأرض وتهامها، ورقاه من محل أمانة الإمامة التي لا يظهر أرباب الألباب على أسرار الله ولا اتهامها، وناطه بتدبيره من إيالة البرية والاعتناء بمصالحها، وأصابه من مراشد اليقين التي تستضيء العقول بمصابحها، وأتى به الأنفس الصالحة من تقواها، وصرف بما صرفه على لسانه من الحكم عنها مضار الشبه وطواها، وألبسه من هدي النبوة التي قرب الله إسناد من رآها وفضل من رواها، يستغزر مواد التوفيق من خالقه بنصحه في الخلائق، ويقدم الاستخارة بين يدي أفعاله فهي به أملك الخلال وأخص الخلائق، ويعتام للقيام بتكاليف الاستنهاض، ويختار لتقويم المياد من اشتهر بالتدبير وجبر المنهاض، ويقدم لكبار الولايات وعواليها، وخصائص الرتب وغواليها، من تكافأت في استيعاب المحاسن خلاله، وخطب الخدم المتكثرة لأولي الحظوظ استقلاله، وعلم استبداده بطيب الذكر وأمن انفصاله، وأوى إلى جنة مريعة وجنة منيعة من الولاء وألحفته ظلاله، واستقام على محجة واضحة من المخالصة ولم يخف زيغه ولا ضلاله، ومضت ضرائبه في المهمات مضاء الحسام الذي لا ينبو حده ولا يثبت انفلاله، وصح بصيرةً في المناصحة فما سر الأعداء شكه ولا اعتلاله، وأعطى الخدم حقوقها من إقامة القوانين، ونهض بأعبائها المثقلة نهضة المشمرين غير الوانين، واشتدت وطأة تبادره على المفسدين والجانين، وتظاهرت شواهد ميزته بما يكثر له الحساد ويرغم الشانين، واقتنى من نفائس المحامد ما يعده أهل النظر قنية القانين، واستبقى من جميل الأحدوثة ما يبقى ذكره بعد فناء الفانين، ووفقت في الخدمة مصادره وموارده، وانتظمت درر الذكر بحسن ذكره فأتلفت فوارده، ونشدت ضوال الغناء فالتقت عنده غرائبه وشوارده، واختصت مساعيه بالإبرار على الأنظار، وصحت خلاله على عيب النقد كما صحح النار نور الأبصار، ونظر لمن أسند إليه أمره نظراً يعفيه من تطرق الأكدار والمضار، ورعى له ما هو متوسل به من آثارٍ حقيقةٍ بالإيثار، وكفايةٍ تأخذ للخدم من الفخر بالثار.
ولما كنت أيها الأمير المراد بهذا الإيراد، المطرد إليه هذا الاستطراد، المعدود في أمراء الدولة العلوية من الأعيان الأفراد، المخلي سيفه بين المساعي الجميلة ينتقي منها ما اختار ويصطفي ما أراد، المهادى الصفات الحسنة فلا جاحد من عداته ولا راد، المضطلع بما يعي حمله الحازم المطيق، المستنفد في أفعاله المشكورة أقوال الواصف المنطيق، الواصل بمحمود مساعيه إلى غايات السابقين في مهل، الجامع في تدبير المهمات بين رأيٍ احتنك وحزمٍ اكتهل المنظور بعين الحزم بآيات دواعيه، المترقي إلى أمانيه في درج مساعيه، المجيب دعوة العزم إذا قام فلم يسمع المقصرون داعيه، المجتهد في تشييد أركان التدبير إذا ارتقب اضطرابه وخيف تداعيه، الممتثل وصايا الأدب الصالح فهو بقلبه راعيه وبسمعه واعيه، الشهم الذي ينفذ في الأمور نفاذ السهم، الألمعي الذي لا أن يماثل بما أوتي من بسطة الفهم، المتبوئ من النعمة منزلة شكر لا يروم ضيفها أن يريمه، ومربع حمد لا يسوم نازلها غير أن يسيمه، المباشر من مأثور السياسة ما استفاض ذكره فلم تتطرق عليه أسباب الجحد، البالغ بسمو المساعي ما قصر الأكفاء عنه ولم يقصروا عن الجهد، الحال من التقدمة في هضابها إذا نزل الأكفاء منها في الوهد، الحامل من أعباء المشايعة ما غدا به من الموفين على الأنظار الموفين بالعهد، المحقوق من الوسائل بأن يجودها النجاح بأغزر ديمة وأسقى عهد، المؤدي فيما يسند إليه فروض التفويض، الملي بأن لا تنوب فرصة حزم إلا كان ملياً باللحاق والتعويض، المكتفي من وصايا الحزم بما يقوم له مقام التصريح من التعريض، المستوجب أن تجدى إلى استحقاقه وتهدى سحائب الطول الطويل العريض، المستوعب شرائط الرياسة بالاستيلاء على أدواتها، المتتبع مظان الخطوب بمفاجأة الغرض في مداواتها، المبرز على القرناء بخلال لا تطمع الهمم في مساماتها ولا مساواتها، الآخذ من كل شيء بأحسنه فأي حسنة لم يؤتها ولم ياتها، النافذ الآراء إذا المشكلات لم يتضح لأرباب الألباب مصمت بيانها، المصيب شواكل الضرائب فسهام آرائه مدلولةٌ على شواتها، المتبرج المقاصد لعيان الحمد إذا تحفزت الأفعال ووارت سوآتها، المعروف بثبوت الجنان، حين يلتبس الشجاع بالجبان، المشكور في مواقف الحرب بأفواه الجراح ولسان السنان، المقدم حيث الأعضاء تتزيل والأقدام تتزلزل، المقتحم غمرات الهيجاء والأرواح عن ولايات الأجسام تعزل.
وقد وليت الولايات فاستقللت بها أحسن استقلال، ورفع لك منار العدل فاستدللت منه بأوضح استدلال، وجعلتها على من تؤويه حرماً، وعلى من يطرقها حمى، وكنت لجمهور زمانك في المصالح والنصائح مقسماً، ولحكم التقوى ولو ضفت مشقاتها دون حكم الهوى محكماً.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره السيد الأجل الذي حل المشكلات من رأيه وراياته بالشمس وضحاها، وتعرضت له آية الليل من العدا فجلاها بسيوفه ومحاها، وثبت نصاب الملك الفاطمي حين أدارت الحرب على فتكاته رحاها، واقتاد الأعداء إلى مصارعها بخزائم من العزائم وأعجلها وأوحاها، وقام بنصر أئمة الهدى حين قعد الناس، ورعى الله عزيمته الصابرة في البأساء والضراء وحين الباس، وخاطر في حفظ الدين بنفسٍ تجري محبتها مع الأنفاس، وحل من ملوك الأرض محل العين من الراس بل الراس من الحواس، وأتعبت الأجسام هممه الجسام، وأعدى الزمان فتبسم جذلاً بعدله البسام، وقسمت المطامع أمواله فحمى المجد الموفر عليه من الانقسام. فطالع أمير المؤمنين بأخبارك بعد اختبارك، وتوسلك إلى التقدمة بمرضي آثارك، وما أظهره الامتحان من نقاء سريرتك وأسرارك، واستقامتك على مثلى الطريقة واستبصارك، وأن ولاية مصر من أنفس الولايات محلاً، وأثبتها على غيرها فضلاً، بمجاورتها للمقام الكريم، وحصولها من استقلال الركاب الشريف إليها على الشرف العظيم، واختصاصها من مجال الخلافة بما جمع لها بين الفخرين الحادث والقديم، وأوجب لها على غيرها من البلاد مزيةً ظاهرة التكريم والتقديم، وما يمت به أهلها من شرف الجوار الذي لآمالهم به التخيير في الإحسان والتحكيم، وما رأى من إسناد ولايتها إليك علماً أنك ممن تزكو لديه الصنيعة، وتروق في جيد كفايته فرائد المنن البضيعة، وتتطامن لاستحقاقه ذروة كل مرتبة رفيعة، خرج أمر أمير المؤمنين إليه، بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بالولاية المذكورة؛ فتقلد ما قلدك منها مقدماً تقوى الله على كل فعل وقول، متبرئاً إليه من طول الحول، معداً ذخيرتها النافعة ليوم الهولح قال الله في محكم الكتاب: {وتَزَوَّدُوا فَإنَّ خَيْرَ الزاد التَّقْوى واتَّقُون يَا أُولي الألباب}.
وانظر في هذه الولاية حاكماً بالقسطاس، وساو في الحق بين طبقات الناس، ولا تميز فيه رفيعاً على حقير، ولا غنياً على فقير، وأقم الحدود من وجبت عليه إقامةً يرتدع بها المغرور، وتستقيم بها الشؤون وتنتظم الأمور، وراع من بهذه المدينة المحروسة من شهودها، ومتميزي أهلها، ففيها الفقهاء والأتقياء، والقراء والعلماء، والمتميزون الأعيان الوجوه، وأهل السلامة الذين يستوجب كلٌ منهم نيل ما يأمله وبلوغ ما يرجوه، فاعتمد إعزازهم، وتوخ تكرمتهم، ووفهم ما يجب لهم من الحق، والقهم بالوجه المسفر الطلق، وأمر بالمعروف ونص إليه، وانه عن المنكر وعاقب عليه، وتفقد أحوال المطاعم والمشارب، وحافظ على إجرائها على أحكام الصواب وقضايا الواجب، واحظر في المكاييل والموازين البخس والتطفيف، وقدم الإنذار في ذلك والتحذير والتخويف، وأوعز بتنظيف المسالك والساحات، وامنع من توعير السبل والطرقات، واعتمد كل ليلة مواصلة التطواف على أرجاء هذه المدينة وأكنافها، ومتابعة الإطلال على نواحيها وأطرافها، واعمل فيمن تظفر به من عابث وعاد، ومنتهج طريق الفساد، ما يرتدع به سواه، ويجعله موعظةً لمن يعدل عن الصواب ويتبع هواه، واشدد من المتصرفين على باب الحكم العزيز في قود أباة الخصوم، لينظر بينهم فيما ينتصف به المظلوم من الظلوم، وتقدم بتوقير الجوامع وصيانتها، وحافظ على ما عاد ببهجتها ونظافتها، وخذ المستخدمين من الأرباع بأن يتيقظ كلٌ منهم لما يجري في عمله، وأن يكون كل ما يحدث وينهى إليك من قبله، وانظر في الصناعة المحروسة، وفي عمائر الأساطيل المظفرة المنصورة، وتوفر على تدبير أمورها والاهتمام بشؤونها، وحفظ ما فيها من الأخشاب، والحديد والعدد والآلات والأسباب، وابعث المستخدمين على المناصحة فيها، وبذل الجهد في قصد مصالحها وتوخيها، وأجر أمر هذه الولاية على ما يشهد بحسن أثرك، وجميل ذكرك وطيب خبرك؛ فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النظر السيدي الأجلي بأمور خدمتك، وما يحتاج إليه من جهتك؛ إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلٍ بولاية الأعمال القوصية، وهي بعد التصدير:
أما بعد فإن أمير المؤمنين- لموضعه من خلافة الله التي أعمره إياها، وأنار بنظره محياها، والإمامة التي أفرعه ذراها، وناط به عراها، وما وكله إليه من القيام، بحفظ الإسلام، الذي رضيه ديناً، وألبسه بعدله تحسيناً وبذبه عنه تحصيناً، وما استودعه إياه من جوامع الحكم، وعدقه بكفالته من رعاية الأمم، وعضد به آراءه من التأييد والتوفيق، وأوجبه من فرض طاعته على كل مطيق- يصطفي لمعونته على النهوض بما حمله الله من أعباء الأمانة، والشكر على ما اختصه به من الوجاهة عنده والمكانة، ويستكفي فيما أمر به من إحسان الإيالة في بريته، وينتخب لتفويض أمورهم والسلوك بهم مسالك رأفته في سيرته، من يكون اصطفاؤه لرضا الله عنه مطابقاً، واجتباؤه لشرائط المراد والاقتراح موافقاً، وانتصابه للمهمات أفضل ما بدئ به وقدم اعتماده، وإسناد الأمر الجسيم إليه أوفى ما عظم بتدبره شأنه ورفع بنظره عماده، وإن ولي ولايةً، جعلها بمهابته حرماً آمناً على أهلها من المخاوف، وغدا حسن سيرته برهاناً على فضله يضطر إلى التصديق به المؤالف والمخالف، وأعاد حميد أثره محلها ربيعاً ممرعاً، وقرب حسن ثنائه من المطالب ما كان بعيداً ممتنعاً، وإن ندب للجلى، عاد مظفر المقاصد، محفوفاً بالميامن والمساعد، ساحباً ذيل الفخر، حائزاً لكنوز الأجر، مستعيناً بتوحيده على العدد الجم، والعسكر الدهم.
وإن هذه الأوصاف قد أصبحت لك أيها الأمير أسامي لم تزدك معرفة، وخواص لمهمات إلى ملابستك إياها متطلعةٌ متشوفة، وأفعالك الحميدة قد بنت لك بكل ريع مناراً، وجعلت لك في كل مكرمة سماتٍ وآثاراً، وجميل رأى أمير المؤمنين فيك؛ قد زاد توفيق مساعيك، وضاعف ارتقاء معاليك، وجعل الخيرة مقترنةً بمقاصدك ومراميك، وسما بك إلى رتبة من الوجاهة تتذبذب دونها مطارح الهمم، وأحلك من الثقة بك منزلةً لا تفضي إليها خواطر الظنن والتهم، وتحقق من يقينك ومضاء عزيمتك، وعدل سيرتك وصفاء سريرتك، ما جعل حظك عنده زائد النماء، وذكرك بحضرته مكنوفاً بالشكر والثناء، ووسائلك إليه متقبلة؛ وقد أدركت في ريق الشباب حزامة الكهول، واستنجحت في مقاصدك بضميرٍ من الولاء مأهول؛ ولك البيت الذي كثر فيه الأمجاد والأفاضل، وأحلك في دعة الناس من يخافهم المباري والمناضل، وتساوت في اعتقاد تفضيلهم حالتا السر والجهر، وأصلح بعزائمهم ما ظهر من الفساد في البر والبحر، وفت المطامع بفضيلة هذا النسب وفضيلة النفس، ودلت مآثرك على ما ظهر من خصائصك دلالة الفجر على الشمس.
ولما رآك أمير المؤمنين أهلاً للعون على استيجابه لطفاً لله عنده، والتماس عوائد صنعه الجميل فيمن فارق سعيه ونبذ عهده، انتضى منك حساماً حاسماً للأدواء، معيناً في اللأواء، طباً بتأليف الأهواء، لا ينبو غراره، ولا يخشى اغتراره، ولا يفل حده، ولا يؤويه غمده، فانحقنت الدماء، وسكنت الدهماء، وعم الأمن، وعظم من الله تعالى الطولوالمن، وأصبح مكان القول فيك ذا سعةٍ فسيحاً، ولسان الإحماد لأفعالك منطلقاً فصيحاً، وحصلت من الوجاهة عند أمير المؤمنين بحيث قدرك رتبةٌ خطيرة، ولا تنأى عنك بجانبها منزلة رفيعة أثيرة، بل غدت خواصها فيك لاستجزال حظها من الجمال بك راغبة، وممتنعاتها لاستكرام الأكفاء طالبةً للإفضال بل خاطبة، إذا كان ما يعدم التتمة بك لا يعدم شعثاً واختلالاً، وما حظي منها بمقاربتك يتيه زهوًا بك واختيالاً، فإذا أراد أمير المؤمنين أن ينظر إلى عمل من أعمال مملكته ويرفع من محله، ويفيض عليه من سحائب رأفته ما يكون ماحياً لآثار جدبه ومحله، ويعم بالبركات أقطاره، ويبلغ كلاً من أهله مآربه من العدل وأوطاره، استند منك إلى القوي الأمين، والكامل الذي لا يخدع الظن فيه ولا يمين، إذا استكفي أمراً حمى حماه بالماضيين: حسامه واعتزامه، وتمسك في حفظ نظامه بالحسنيين: طاعة الله وطاعة إمامه.
ولما كانت مدينة قوص وأعمالها أمدى أعمال المملكة مسافة، وأبعدها من دار الخلافة، وتشتمل على كثيرٍ من أجناس الناس، وأخلاطٍ يحتاج فيهم إلى إحسان السياسة والإيناس، وعليه معاج المسافرين من كل فجٍ عميق، وإليه يقصد الحجاج إلى بيت الله العتيق، رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه أن يرد ولاية الحرب بها إليك، ويعول في تقويم مائدها وضم نشرها عليك، وأن يحسم بك داءها ويحسن بنظرك رواءها، ويعم أهلها بك رأفةً ومناً، فخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بالولاية المذكورة، فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين واعتمد على تقوى الله التي جعلها شرطاً في الإيمان، وأمر باعتمادها في السر والإعلان، فقال في كتابه المبين: {واتَّقُوا اللهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنين}.
وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر، وابسط عدل أمير المؤمنين على البادين والحضر، وأقم الحدود على من وجبت عليه بمقتضى الكتاب والسنة، وقم بما أمر الله به من ذلك بأنفذ عزمٍ وأقوى منة، وساو في الحق بين الضعيف والقوي، وآس بين العدو والولي والذمي والملي، واجعل من تضمه هذه الولاية ساكنين في كنف الوقاية، مشمولين بالصون والحماية، وليكن أربهم في الصلاح في أربك، فكلٌ منهم شاكرٌ لله على النعمة بك، وبث في أقطارها ما يحجز النفوس العادية عن التظالم، ويعيد شيمتهم بعد العدوان مخلدة إلى التوادع والتسالم؛ ومن أقدم على كبائر الإجرام، ولم يتحرج عن الدم الحرام؛ فامتثل فيه ما أمر الله به في قوله: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ ورَسُولَه ويَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ من خِلاَفٍ أو يُنْفَوْا منَ الأرْضِ ذلِك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَة عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
واعتمد المستخدم في الحكم العزيز والدعوة الهادية- ثبتهما الله- بما يقوي عزمه، وينفذ حكمه، وأجزل حظه من إعزاز الجانب، وتيسير المطالب، وأحسن إليه العون على صون المؤمنين، واجتلاب المستخبثين، والمستخدمون في الأموال من مشارفٍ وعامل وغيرهما فاندبهم في عمارة الأعمال، وبلغهم في المرافدة كنه الآمال، واشدد منهم في صون الارتفاع، وحفظه من الإفراط والضياع، وضافرهم على استخراج الخراج، وخذهم بحمل المعاملين على أعدل منهاج. والرجال العسكرية المركزية المستخدمون معك فاستخدمهم في الخدم السانحة، وصرفهم في المهمات القريبة والنازحة؛ فمن استقام على طريق الصواب، أجريت أموره على الانتظام والاستتباب، ومن كان للإخلال آلفاً، وللواجب مخالفاً، قومت بالتأديب أوده، وحلأته عن مورد الفساد الذي تورده.
هذه درر من الوصايا فابعث على إحضاره الثقة بهدايتك إلى كل صواب، واعتلاقك من الديانة والأمانة بأوثق الأسباب، وإحاطة علم أمير المؤمنين باستغنائك بذاتك، وكمال أدواتك، عن الإيقاظ والتنبيه، والإرشاد فيما تنظر فيه؛ والله يوفقك إلى ما يرضيه، ويجعل الخيرة مكتنفةً لما ترويه وتمضيه، فاعلم هذا واعمل به إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلٍ بولاية الأعمال الغربية، وهي:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين- لما فضله الله به من إمامة البشر وشرفه، وأناله إياه من الخلافة التي نظم بها عقد الدين الحنيف وألفه، وأمضاه الله له في أقطار البسيطة من الأوامر، ونقله إليه من الخصائص النبوية التي تجملت بذكرها فروق المنابر، ومكنه له من السلطان الذي تخضع له الجبابرة وتدين، وعضده به من التأييد الذي أرغم المشركين وخفض منار الملحدين، وآثره به من مزايا التقديس والتمجيد، وألهمه إياه من استكمال السيرة التي أصبح الزمن بجمالها حالي الجيد، وأنجد به ملكه من موالاة النصر ومتابعة الإظفار، وحازه له من مواريث النبوة المنتقلة إليه عن آبائه الأطهار، واصطفاه له من إيضاح سبل الهدى المعتاد، وألهمه إياه من إسباغ ملابس الرحمة على الحاضر من الأمم والباد، ووفر عليه اجتهاده من استدناء المصالح واجتلابها، وصرف إليه هممه من تمهيد مسالك الأمنة وفتح أبوابها- يتصفح أمور دولته تصفح العاني بتهذيب أحوالها، ويتفقد أعمال مملكته تفقداً يزيل شعثها ويؤمن من اختلالها، ويعدق المهمات الخطيرة بالصدور الأفاضل من أصفيائه، ويزيد في رفع منازل أوليائه إلى الغاية التي تشهد بجلالة مواضعهم من جميل آرائه، ويفيض عليهم من أنوار سعادته ما يظهر سناه للأبصار، ويمنحهم من اصطفائه ما لا يزال دائم الثبات والاستقرار، ويعول في صيانة الرعايا من المضار، وحراسة الأعمال المتميزة من عيث المفسدين والدعار، على من تروع مهابته ضواري الآساد، وتكفل عزائمه بقطع دابر الفساد، ويبدع في السياسة الفاضلة ويغرب، وتعجب أنباؤه في حسن التدبير وتطرب، ويعم الرعايا بضروب الدعة والسكون، ويشملهم من الأمنة والطمأنينة بأنواعٍ وفنون، وتقوم كفايته بسد الخلل وتقويم الأود، ويبلغ في تيمنه في اكتساب المحامد إلى أقصى غايةٍ وأبعد أمد، ويعنى بحفظ النواميس وإقامة القوانين، ويدأب في استعمال السيرة الشاهدة له باستكمال الفضل المبين، ولا يألو جهداً في تقريب الصلاح واستدنائه، ويقصد من الأفعال الجميلة ما تلهج به الألسن بإطابة ثنائه.
ولما كنت أيها الأمير نجماً من نجوم الدين المضيئة المشرقة، وثمرةً من ثمرات دوحة العلاء الزكية المورقة، وفذاً في الفضائل البديعة، وفرداً في المحاسن التي لم تفز بنظير ذكرها أذنٌ سميعة، وسيفاً يحسم داء الفساد حداه، وكافياً لا يتجاوزه الاقتراح ولا يتعداه، وماجداً حاز المفاخر عن أهل بيته كابراً عن كابر، وعلماً في المآثر يهتدي به الأعيان الأكابر، وهماماً تملأ مهابته القلوب، وماضياً تلوذ بمضائه الأعمال الخطيرة وتؤوب، وصدراً تقر له الرؤساء بارتفاع المنزلة، ومهذباً أغرته شيمه الرضية ببث الإنصاف وبسط المعدلة، وحازماً لا يخشى اختداعه واغتراره، وعازماً لا يكهم عزمه ولا يكل غراره. وقد ألقت إليك المناقب قيادها مطيعة، وأحلتك الرياسة في أشمخ ذروة رفيعة، وتألفت عندك الفضائل تألف الجواهر في العقود، وتكفلت لك مساعيك المحمودة بتضاعف الميامن وترادف السعود، وتكاملت فيك الخلال المطابقة لكرم أعراقك، واستعملت الأفعال الشاهدة بمبالغتك في ولاء أئمتك وإغراقك، وحصل لك من الانتماء إلى البيت الصالحي الكريم ما كسبك فخراً لا يبرح ولا يريم، وخصك في كل زمن بمضاعفة التفخيم والتقديم، وأنالك من الإقبال غاية الرجال، وجعل وجاهتك فسيحة الفناء، وسيعة الأرجاء. ولك المهابة التي تغني غناء الجيوش المتكاثرة العدد، والجشاعة التي تسلط قوارع الدمار على من كفر وعند، والعزم الذي استمدت السيوف الباترة من مضائه، وعز جانب التوحيد بانتضائه لجهاد أعداء الله وارتضائه، والإقدام الذي تلوذ منه أسود الوقائع بالفرار، والبأس الذي لا يعصم منه الهرب ولا ينجي من بوادره الحذار.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره، وصائن ملكه وظهيره، السيد الأجل الذي فأثنى عليك ثناءً طال وطاب، وحرر في ذكر مناقبك ومحاسنك القول والخطاب، وذكر مالك من الأعمال في الأعمال الغربية، التي أعادت الأمنة على الرعية، وما استعملت فيهم من السيرة العادلة، والسياسات الفاضلة، وقرر لك الخدمة في ولاية أعمال الغربية؛ فخرج أمر أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بالولاية المذكورة؛ فتقلد ما قلدته عاملاً بتقوى الله سبحانه الذي إليه تصير الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ وقال الله جل من قائل في كتابه المكنون: {إنَّ اللهَ مَعَ الذِينَ اتَّقَوْا والذِينَ هُمْ مُحْسِنُون} فاعمم بالعدل من تشتمل عليه هذه الولاية، وانته في حياطتهم وكلاءتهم إلى الغاية، وصنهم من كل أذًى يلم بساحتهم، وتوفر على ما عاد باستتباب مصلحتهم، واخصص أهل الستر والسلامة بما يصلح أحوالهم، ويشرح صدورهم ويبسط آمالهم، وقابل الأشرار منهم بما يدوخ شرتهم، ويكف عن ذوي الخير مضرتهم، واشدد وطأتك على الدعار وأهل العناد، وتطلبهم حيث كانوا من البلاد، واقصد حماية السبل والطرقات، وصنها من غوائل المفسدين على ممر الأوقات؛ ومن ظفرت به من المجرمين فاجعله مزدجراً لأمثاله، وموعظةً لمن يسلك مسلك ضلاله؛ والمقدمون على سفك الدم الحرام، والمرتكبون لكبائر الذنوب والإجرام، فامتثل فيهم ما أمر الله تعالى به في كتابه الكريم، إذ يقول: {إنَّما جَزَاءُ الذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ في الأرْض فَساداً أنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهُمْ من خِلاَفٍ أو يُنْفَوْا منَ الأرض ذلكَ لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنيَا وَلَهُمْ في الآخِرة عَذَابٌ عَظِيم}.
وأجزل حظ النواب في الحكم العزيز من عنايتك، واجعل لهم نصيباً وافراً من اهتمامك ورعايتك، وعاضدهم على إقامة منار الشرع، وأجر أحوالهم على أجمل قضية وأحسن وضع. والمستخدمون في الأموال، تشد منهم شداً يبلغهم الآمال، ويقضي بتزجية الارتفاع وتثمير الاستغلال، وعاضدهم على عمارة البلاد، ووازرهم على ما تكون به أحوالها جاريةً على الاطراد. والرجال المركزية والمجردون فاستنهضهم في المهمات القريبة والبعيدة، وخذهم بلزوم المناهج المستقيمة السديدة، وقابل الناهض منهم بما يستوجبه لنهضته، وقوم المقصر بما يوزع من يسلك مسلكه ويقتفي طرقته، فاعلم هذا واعمل به وطالع، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلٍ بولاية ثغر الإسكندرية، كتب به لابن مصال، من إنشاء القاضي الفاضل، وهي:
أما بعد، فإن أمير المؤمنين- لما أكرمه الله به من شرف المنصب والنصاب، وأجار العباد بآبائه الطاهرين من عبادة الأوثان والأنصاب، وأوردهم من موارد حكمه التي كل صادرٍ عن ري قلبه منها صاد، وسخره بأمره من رياح الصواب التي تجري بأمره رخاءً حيث أصاب، وأصمى بسهام عزائمه، من مقاتل الباطل، وحلى بأنوار مكارمه، من أجياد الأماني العواطل، وأنجزه على يد أياديه من وعود سعودٍ تظل السحب المواطر بمثلها هواطل، وتوحده به من الإمامة التي أعز بها أحزاب التوحيد، وأجراه من بركاته التي لا تقول الآمال لها هل من مزيد، وأوراه من فتكاته التي لا تقول لها الآجال هل من محيد، وأجد به من إرادته لأزمة الأيام فهي بين إنعامه وإسقامه تفيد وتبيد، وأحدثه له من معجزات التأييد التي تملك أحاديثها رق التأبيد، وشرف به قدره في ملكوت السموات والأرض والملائكة له أنصارٌ والملوك له عبيد، وألهمه من إيداع جلي صنائعه حيث لا ينكر المقلد ولا يستغرب التقليد، وأنطق به لسان كرمه من بدائع إحسان تروق بين الترديد والتوليد- ينظر بنور الله فيمن ينظر به للجمهور، ويجلو عقائل المكارم على من هو ماهرٌ في تقدمة المهور، ويربح الذين يرجون بولائه تجارةً لن تبور، ويقتدح الأنوار المودعة في سواد الشباب كما يودع في سواد العين بياض النور، ويرفع رتب الأعيان حتى إذا تعاطاها سواهم ضرب بينه وبينها بسور، وتعود أياديه إلى بيوت النعم فكل بيتٍ تولاه كالبيت المعمور، وتهدي السرور بهم إلى صدور الثغور، والابتسام إلى ثغور الصدور، ويرى أنهم يستوجبون فواضله ميراثاً، وإذا سلمت إليهم أعنة الولايات كانت لهم تراثاً، وإذا تبوءوا الرتب العلية كانت الرياسة لهم داراً والسياسة أثاثاً، لا سيما الصدر الذي عرفته السعادة لدولة أمير المؤمنين واحداً يجمع فضل سلفه، وندباً ما عرضت عليه جواهر الدنيا فضلاً عن أعراضها إلا ولاها عطف نزاهته وظلفه، وألمعياً تتناثر معاني المعالي من شمائله كما تنتثر من غصن القلم ثمار أحرفه، وكفؤاً للصدور من أنهضه بها بنص تكلفه أنهضه بها فضل كلفه، وقواماً بالأمور يمضي عليها مضاء النجم في بحر حندسه لا السهم في نحر هدفه، وملاكاً للثغور إذا حل منها في إسكندريتها فهو على الحقيقة نجمٌ حل برج شرفه، وطوداً للوقار يعتزي الحلم منه إلى أقومه لا إلى أحنفه، وشرطاً للاختيار، يكتفي مصطفيه منة معرفه ومؤونة معنفه، ومعنًى للفخار، لم ينتصف فيه من لسان واصفه مسمع مستوصفه، وعلماً للأنظار، يبدو لهم منار إشراقه ويخفى عليهم منال شرفه.
ولما كنت أيها الأمير واسطة عقد هذه الأوصاف الحسنى، ومنجد ألفاظها من الحقيقة بالمعنى الأسنى، المتوحد من الرياسة باسمٍ لا يجمع بعده ولا يثنى، الجاري إلى غايةٍ من المجد لا يرد عنها عنانه ولا يثنى، الجدير إذا ولي أن يسكن الرعية اليوم عدلاً لا تسكنه في غدٍ عدناً، وينجز فيهم وعد الله الصادق في قوله: {ولَيُبَدِّلَنَّهم منْ بَعْدِ خَوْفِهمْ أمْناً}، المستبد بالحمد حتى استقر فيما يفعل واستقرى فيما يكنى، الثبت الذي لا تقرع الأهوال صفاته، الندب الذي لا تبلغ الأقوال صفاته، الولي الذي لا تكدر الأحوال مصافاته، الجامع بين فضل السوابق وفضل اللواحق، المتجلي في سماء الرياسة نيراً لا تهتضمه صروف الليالي المواحق، المشكور الفعال لا بألسنة الحقائب بل بألسنة الحقائق، المستبد بالهمم الجلائل المدلولة على المحاسن الدقائق، المستمد صوب الصواب من خاطرٍ غير خاطل، المستجد ثوب الثواب بسعيٍ ينصر الحق على الباطل، المستعد لعقب الأيام بأقرانٍ من الحزم تثنيها على الأعقاب، المسترد بمساعيه فوارط محاسن كانت مطوية في ضمائر الأحقاب، السامي بهمته، إلى حيث تتقاصر النواظر السوامي، المقرطس بعزيمته، حيث لا تبلغ الأيدي الروامي، المستقل بقط نواجم الخطوب وحسمها، المستقر في النفوس أنه يقوم في ظلمها مقام نجمها، المطلق وجهاً فلا غرو أن تجلى به الجلى، المطلق وصفاً حسناً فلا يعرض له لولا ولا إلا، المؤيد العزمات، في صون ما يفوض إليه ويليه، المتقى الوثبات، ممن يجاوره من الأعداء ويليه، المحيي بمسعاه ما شاده أولوه، والمتوضحة فيه نصوص المجد الذي كانوا تأولوه، والآوي إلى بيتٍ تناسقت في عقوده الرؤساء الجلة، والطالع منه في سماءٍ إذا غربت منها البدور أشرقت فيها الأهلة.
ولقد زدت عليهم وما قصروا زيادة أبيض الفجر على أزرقه، وكنت شاهد من يروي مناقبهم البديعة، ودليل من ادعى أن المكارم لكم ملكةٌ وعند سواكم وديعة، وقبلت وصاياهم في المعالي فكأنما كانت لديكم شريعة، ونصرتم الدولة العلوية فكنتم لها أمثل أولياء وأخص شيعة، وتجملت أنسابكم باصطناعها وكفاكم إن عددتم لصنائع الله صنيعة، وأباحتكم من اصطفائها كل درجةٍ على تعاطي الأطماع عليةٍ منيعة، وقدمتكم جيش برها وبحرها، وكان منكم سيف جهادها ونجم ليلها وفارس كرها، وصالت بكم على أعدائها كل مصال، وأغربت من يليها إلا إذا استقرت في داركم إلى مصار؛ وحين خرجت منها خائفاً تترقب، وأبقيت فيها حائفاً يتعقب، كنت الذهب المشهور، الذي ما بهرجه الرغام، والحرف المجهور، الذي ما أدرجه الإدغام، وكنت وإن كنت بين الكفار، عنهم شديد النفار، وحللت فيهم محل مؤمن آل فرعون يدعوهم إلى النجاة وإن دعوه إلى النار، وعدت إلى باب أمير المؤمنين عود الغائب إلى رحله، والآئب إلى أهله، واستقررت به استقرار الجوهر في فصله، والفرع في أصله، وأبان الاستشفاف عن جوهرك الشفاف، وخرجت من تلك الهفوات خروج الرياح لا خروج الكفاف، وأعربت السعادة إذ حيتك بمشيبٍ أسود، وتبع الأماجد غبارك الذي يرفع من طريق السؤدد، واعتلقت بعروة الجد، فلست من ددٍ ولا منك دد، وضبرت قلب العيش الأصفى بعد العيش الأنكد؛ لا جرم أن أمير المؤمنين أنساك سيئة أمسك بحسنة يومك، وسما بك إلى أعلى رتب الأولياء وأغناك عن تعرض سومك، وأنعم بك على قومٍ ما عرفوا إلا رياسة قومك.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين أمين مملكته، ويمين فتكته- السيد الأجل الذي أتى الله به سهماً إلى مصر وهي كنانته؛ وأفرده بمزية السبق فلا حظ لمساجله إلا أن تدمى بنانته، ورعى الرعية منه ناظرٌ لا تلم بناظره مراود الهجود، وقام بالملك منه قائمٌ لا يزال يورده موارد الجود، وأعنته يد الغلاب عن لسان الجلاب، ونال نادرة الأمل في نادرة الطلاب، وجمت فتكاته من الهرمين إلى الحرمين، وصرف الرمح تصريف القلم وكأنه يصول ويصل بقلمين، ورد الله به العدو منخذلاً، وطالما لقيه فأقام منجدلاً، وأضحى به ذيل النعمة منسحباً وستر الأمنة منسدلاً، ودبر الأمور فأمسكها حازماً وعقلها متوكلاً- فأنهى ما لسلفك عند الأئمة الخلفاء من مزية الاصطفاء، وما لك في نفسك من الحسنات التي ما برحت بارحة الخفاء، وما اطلع عليه من خلالك التي ما أخلت بمنقبة، وأفعالك التي ما تغايرت في يومٍ ذي نعمة ولا يومٍ ذي مسغبة، وما لك من وثائق العقود، وما فيك من الأوصاف المؤكدة لعلائق السعود، وقرر لك الخدمة في كذا وكذا- خرج أمر أمير المؤمنين إليه بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بالخدم المذكورة وهي التي فرقت لسلفك وجمعت لديك، كما أن محاسنهم المفرقة منتظمة العقود عليك: ليكمل لك ولايتي الثغر والسيادة في حال، وليسد بك ثغر الجهاد وثغر الإمحال، ولتقوم في هذا مقام الجحفل الجرار وفي ذلك مقام الحيا الهطال، ولتكون فرائد الإنعام عندك توأماً، وليجعل ابتداء تصرفك لغيرك تماماً، وليختصر لك طريق الكمال، وليجري بك في ميدان الشكر طليق الآمال، فتقلد ما قلدته منهما عاملاً بتقوى الله التي هي مصالح الأعمال، وميدان الإتحاف والإجمال، وسبب النجاة في الابتداء وعند المآل؛ قال الله سبحانه في كتابه الذي لم يجعل له عوجاً: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ له مَخْرَجاً}.
وابسط العدل على من يحويه هذا الثغر الذي هو ثغر الثغور الباسم، وأولاها بأن تكون أيامه بأوامر الله وأمر أمير المؤمنين مواسم؛ ففيه من صدور المحافل، وقلوب الجحافل، وعيون المدارس، وأعيان الفوارس، وتجار الدنيا والآخرة، وأخبار الأمة المقيمة والمسافرة، ووفور مكارم عدل أمير المؤمنين التي هي بالرجاء واردة وبالرضا صادرة، من يؤثر أن يكون فضل السكون لهم شاملاً، ورداء الأمن عليهم سابلاً، وسحاب الإنعام عليهم هاطلاً، وحالهم في الاتساق لا متغيراً ولا حائلاً، وساو في الحق بين أبعدهم وأقربهم، ومقيمهم ومتغربهم، واعتمد منهم من تقدم ذكره بما يرهف في الطاعة خاطره ويشحذه، ويصونه من تحيف الأيدي الجائرة وينقذه، واخصص العلماء بكرامة تعينهم على التعليم، والأعيان بمزية توضح لهم ما لهم من مزية التقديم، واكفف عوادي أهل الشره والشر، واقمع غلواء من اعتز بغير الله واغتر، وتوخهم بإقامة المهابة وبسطها، وكف الشوكة وقطها، وأمر بالمعروف وأنه عن المنكر، وأقم الحدود إقامة من يثاب عليها ويؤجر، وتفقدها على حدها غير داخل في الأقل ولا خارجٍ إلى الأكثر، وأذك العيون على من يلم بسواحل الثغر من أسطول العدو اللعين ومراكبه، واحجز باليقظة بينه وبين تلصيص مطالبه، وأمر أهله باتخاذ الأسلحة التي يعز الله بها جانبه، ويذل مجانبه، وتبلغ العدو اللعين من ذكرها ما يعملها وهي في أيديهم موفرة، ويبذلها في مقاتلهم وبيوتهم بها معمرة؛ قال الله سبحانه في آياته المتلوة: {وأعِدُّوا لَهُمْ ما اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوّة}.
واعتمد للأعمال البحرية مثل ما تقدم شرحه من تأمين الأخيار وترويع الأشرار، وتتبع كل مريب مستخفٍ بالليل وساربٍ بالنهار؛ ومن ظفرت به قد حارب الله في أرضه، وصار قتله من فرضه، فنفذ حكم الله فيه في آية السيف وأمضه، وادع إلى عمارة بلادها وتخفرها، وتفقد المصالح بها وتكثرها، وإطابة أنفس المزارعين بما تخففه عنهم من وطأة كانت ثقيلة، وتقلله عنهم من مغارم لم تكن قليلة؛ فما عمرت البلاد بمثل النزاهة التي هي شيمتك المعتادة، والمعدلة التي هي من خلالك مستفادة، واعتمد كلاً من النائب في الحكم العزيز والناظر في الدعوة الهادية والمشارف بالثغر والعمال برعاية تحفظ مراتبهم، وتلحظ مطالبهم، وتنفذ الأحكام، وتبلغ بما ينظرون فيه من المصالح غايات التمام، وتعز طائفة الإيمان، وتظهر عليهم أثر الإحسان، وتستدر حلب الأموال، وتستديم عمارة الأعمال، وتقضي بمواصلة الحمول وتحصيل الغلال، وتعود بها عليك عوائد الأجر والجمال؛ ومثلك اشتهاراً أيها الأمير من ولي فلم تطل له الوصايا التي يحتاج إلى إطالتها سواه، ويوثق بما يذكيه من عيون حزمٍ غير غوافل ولا سواه، ويحقق أن تقواه رقيب سره ونجواه، وأن أمير ورعه يحكم على أسير هواه؛ والله سبحانه يجعل نعمة أمير المؤمنين لديك مأمولة الدوام موصولة الحبل، ويتمها عليك كما أتمها على أبويك من قبل؛ إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى هذا النمط كانت سجلات سائر ولايات أعمال الديار المصرية، فكانت تكتب على نظير ذلك في الوجه القبلي ولاية الجيزية، وولاية الإطفيحية، وولاية البهنساوية، وولاية البوصيرية، وولاية الأشمونين والطحاوية، وولاية السيوطية، وولاية الإخميمية، وولاية الفيوم، وولاية واح البهنسا، وولاية الواح الداخلة، وولاية الواح الخارجة. ومن الوجه البحري ولاية القليوبية، وولاية منية تردي وهي منية غمر، وولاية المرتاحية، وولاية الدقهلية، وولاية مدينة تنيس- وبها كانت دار الطراز- وولاية المنوفية، وولاية جزيرة بني نصر وربما أضيفت إلى المنوفية وعبر عنهما بالمنوفيتين، وولاية جزيرة قوسينيا، وولاية البحيرة، وولاية ثغر رشيدٍ المحروس، وولاية ثغر نستراوه، وولاية ثغر دمياط، وولاية الفرما، بساحل الشامي فيما دون العريش.
وأما البلاد الشامية فقد تقدم أنها كانت خرجت عنهم وتملكت الفرنج غالب سواحل الشام، ولم يبق معهم إلا ساحل عسقلان وما قاربه وكان مقر الولاية بها في عسقلان.
وهذه نسخة سجل بولايتها، وهي:
أما بعد، فإن أولى ما وفر أمير المؤمنين حظه من العناية والاشتمال، واعتقد العكوف على مصالحه من أشرف القربات وأفضل الأعمال، وأسند أمره إلى من يستظهر على الأسباب المعيية بحسن صبره، وعدق النظر فيه بمن لا يشكل عليه أمرٌ لمضائه ونفاذه ومعرفته وخبره، ما كان حرزاً للمرابطين ومعقلاً، وملتحداً للمجاهدين وموئلاً، وموجباً لكل مجتهد أن يكون لدرجات الثواب مرتقياً متوقلاً، عملاً بالحوطة للإسلام الذي جعله الله في كفالته وضمانه، وتمادياً على سياسته التي أقر بفضلها إقرار الضرورة كافة ملوك زمانه، وحرصاً على الأفعال التي لم يزل مقصوداً فيها بألطاف الله تعالى وتوفيقه، وتبتلاً للأمور التي أرشده الله سبحانه في تدبيرها إلى منهج الصواب وطريقه، ومضاعفةً من الحسنات عند أوليائه أهل الحق وحزبه وفريقه.
ولما كانت مدينة عسقلان- حماها الله تعالى- غرةً في بهيم الضلال والكفر، وحرماً يمتاز عن البلاد التي كلمها الشرك بالناب والظفر، وهو من أشرف الثغور والحصون، وأهله أنصار الدين القيم المحفوظ المصون، وكنت أيها الأمير من أعيان أمراء الدولة وكبرائهم، ووجوه أفاضلهم ورؤسائهم، ولك في الطاعة استرسال الأمن في مواطن المخاوف، وفي الذب عنها وحمايتها مواقف كريمةٌ لا توازى بالمواقف؛ وقد وصلت في ولائها القديم بالحديث والتالد بالطريف؛ وحين وليت مهماتٍ استنجد فيها بعزمك، واستعين عليها بحزمك، تهيب الأعداء فيها ذكر اسمك، وكان من آثارك فيها ما شهر غفلها بوسمك، فلا يباريك مبارٍ إلا أربيت عليه وزدت، ولا يناويك مناوٍ إلا أنسيت ذكره أو كدت؛ فكم لك من مقامٍ محمودٍ يسير ثناؤه ووصفه، وكم لك من ذكرٍ جميل يفوح أرجه ويتضوع عرفه، وكم لك من مجالٍ في المشايعة لا يقصر أمده ولا يكبو طرفه؛ والسيد الأجل الأفضل الذي عظم الله قدره ورفع مجده، وجعله في الغضب لتوحيده دون جميع البرية أمة وحده، وألهمه التجرد لنصرة الإيمان فقام بحق الله لما غفل الملوك وقعدوا، وأمده بمواد السعد فاستيقظ بمفرده حين ناموا عن استخلاصه مما عراه ورقدوا، وأضحى انتصابه آيةً أظهرها الله للملة، وغدا انتصاره معجزةً حسم بها في رفع منار الدين كل علة، فهمته مصروفةٌ على ما يعز الشريعة الحنيفية، وعزمته موقوفةٌ على الدفع عنها بأطراف الذوابل وحد المشرفية، فبلغه الله في كل ما يحأوله ما يضاعف فخره، وأعانه على ما يقدمه لمعاده ويجعله في الآخرة ذخره، بحوله ومنه، وطوله وفضله.
فلا يزال هذا السيد الأجل يثني عليك ثناءً يخلد لك ولعقبك مجداً باقياً، ويحبوك من الوصف والإطراء بما يجعلك في مراتب الوجاهة والنباهة سامياً راقياً، ويرشحك من الخدم لأجلها قدراً، ويطلع منك في آفاق سمائها بدراً، ويجعل لك بما يؤهلك له صيتاً ويسير لك ذكراً؛ وحين جدد شكرك، وأوصل على عادته ما يشيد أمرك، قرر لك ولاية ثغر عسقلان- حماه الله تعالى- الذي هو ثغر الدين، وكنانة الموحدين، ووزر الأتقياء المجاهدين، وشجًى في صدور الكفرة المعاندين؛ فأمضى أمير المؤمنين ما رآه من هذا التقرير، وعلم أن البركة مضمونةٌ فيما يتكلفه من التدبير، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك ولاية هذا الثغر المحروس وعمله، وما هو منتظم معه من سهله وجبله، فاعرف قدر هذه النعمة التي رفعتك على جميع الأمراء، وأغناك فيها حسن رأي أمير المؤمنين ووزيره السيد الأجل الأفضل عن الوسائط والسفراء، وأحلتك أعلى مراتب الرفعة والسمو، وأحظتك مع بعد الدار بمزية القرب من قلبيهما والدنو؛ فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه الولاية الشامخة المحل، التي غدا محظورها على غيرك من المباح لك المحل، وتلقها من الشكر بما يجعلها إليك آوية، ولديك مقيمةً ثاوية، واعمل فيها بتقوى الله التي إذا أظلمت الخطوب طلعت في ليلها فجراً، قال الله عز من قتال: {وَمَنْ يَتَّق اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أجْراً}.
واشمل أهل هذه الولاية بالمماثلة بينهم فيما كان حقاً، ولا تجعل بين الشريف والمشروف في الواجب فرقاً وأمر بالمعروف وابعث عليه، وانه عنه المنكر وامنع من الإجراء إليه؛ وأقم الحدود مستمراً في إقامتها على العادة، ومتوقياً من نقص ما يؤمر به منها أو زيادة، واصرف النصيب الأجزل، الأوفر الأكمل، إلى الاستيقاظ للعدو المخذول المجاور لك والبحث عن أخباره وعمل المكايد له، ومواصلته بما يديم مخافته ووجله، واغزه في عقر داره، واقصده بما يقضي بخفض مناره، ولا تهمل تسيير السرايا إليه، وإطلاع الطائع بالمكاره عليه، واعتمده بما يشرد عنه لذيذ منامه، وازرع في قلبه خوفاً يهابك به في يقظته وفي أحلامه، وافعل في أمر من يجرد إليك من عسكر البدل المنصور في تقرير نوب المناسر، ولتتخير لها كل متوثب على الإقدام متجاسر، ما تقتضيه الحال مما أنت أقوم لمعرفته، وأهدى الناس في سبيله ومحجته، ووفر حظ القاضي المكين متولي الحكم والمشارفة من إعزازك وإكرامك، واشتمالك واهتمامك، ورعايتك ومعاضدتك، والعمل في ذلك بما هو معروفٌ من سياستك، ومشهورٌ من رياستك، وكذلك المستخدم في الدعوة الهادية ثبتها الله تعالى، فاعتمده بما يعز أمره، ويبسط أمله ويشرح صدره، وضافر على أمر المال، ووفور الاستغلال، والعمل في ذلك بما فيه أكبر حظٍ للديوان، واجر على ما هو مشهورٌ عنك في ولايتك من حسن السياسة، والعمل بقضايا المصلحة، والتبتل لما تستقيم به أمور الخدمة، وحفظ أهل السلامة وأرباب الدين، وإعمال السيف في مستوجبيه من المفسدين والمتمردين، مما أنت أنفذ الولاة فيه، وأعلمهم بما يوجبه الصواب ويقتضيه؛ فاعلم هذا واعمل به، وطالع مجلس النظر بما تجب المطالعة بمثله؛ إن شاء الله تعالى.
المذهب الثاني: أن يفتتح ما يكتب في الولاية بلفظ هذا ما عهد عبد الله ووليه فلان أبو فلان، الإمام الفلاني أمير المؤمنين، لفلان الفلاني حين ولاه كيت وكيت من غير تعرضٍ لتحميد في أول ما يكتب ولا في أثنائه:
ثم يقال: أمره بكذا وأمره بكذا على قاعدة ما كان يكتب في العهود بديوان الخلافة ببغداد، وهو قليل الاستعمال عندهم للغاية القصوى، ولم أظفر منه بغير هذا العهد وهذه نسخة عهد على هذه الطريقة، كتب به عن الحاكم بأمر الله الفاطمي، للحسين بن علي بن النعما، بقضاء الديار المصرية وأجناد الشام وبلاد المغرب، مضافاً إلى ذلك النظر في دور الضرب والعيار وأمر الجوامع والمساجد، وهو: هذا ما عهد عبد الله ووليه المنصور أبو علي الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، للقاضي حسين بن علي بن النعمان حين ولاه الحكم بالمعزية القاهرة ومصر، والإسكندرية وأعمالها، والحرمين حرسهما الله تعالى، وأجناد الشام، وأعمال المغرب، وإعلاء المنابر، وأئمة المساجد الجامعة، والقومة عليها والمؤذنين بها، وسائر المتصرفين فيها وفي غيرها من المساجد، والنظر في مصالحها جميعاً، ومشارفة دار الضرب وعيار الذهب والفضة، مع ما اعتمده أمير المؤمنين وانتحاه، وقصده وتوخاه: من اقتفائه لآثاره، وانتهائه إلى إيثاره، في كل عليةٍ للدولة ينشرها ويحييها، ودنيةٍ من أهل القبلة يدثرها ويعفيها؛ وما التوفيق إلا بالله ولي أمير المؤمنين عليه توكله في الخيرة له ولسائر المسلمين فيما قلده إياه، من أمورهم وولاه.
أمره أن يتقي الله عز وجل حق التقوى في السر والجهر والنجوى، ويعتصم بالثبات واليقين والنهى، وينفصم من الشبهات والشكوك والهوى: فإن تقوى الله تبارك وتعالى موئلٌ لمنوأل إليها حصين، ومعقل لمن اقتفاها أمين، ومعول لمن عول عليها مكين، ووصية الله التي أشاد بفضلها، وزاد في سناها بما عهد أنه من أهلها، فقال تبارك وتعالى: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}.
وأمره أن لا ينزل ما ولاه أمير المؤمنين إياه من الأحكام في الدماء والأشعار والأبشار، والفروج والأموال، عن منزلته العظمى من حقوق الله المحرمة، وحرماته المعظمة، وبيناته المبينة في آياته المحكمة، وأن يجعل كتاب الله عز وجل وسنة جدنا محمدٍ خاتم الأنبياء، والمأثور عن أبينا علي سيد الأوصياء، وآبائنا الأئمة النجباء- صلى الله على رسوله وعليهم- قبلةً لوجهه إليها يتوجه، وعيها يكون المتجه، فيحكم بالحق ويقضي بالقسط، ولا يحكم الهوى على العقل، ولا القسط على العدل، إيثاراً لأمر الله عز وجل حيث يقول: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الحِسَابِ} {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أقْرَبُ للتَّقْوى واتَّقُوا اللهَ إنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون}.
وأمره أن يقابل ما رسمه أمير المؤمنين وحده لفتاه برجوان، من إعزازه والشد على يده، وتنفيذ أحكامه وأقضيته؛ والقصر من عنان كل متطأول على الحكم، والقبض من شكائمه، بالحق المفترض لله جل وعز ولأمير المؤمنين عليه: من ترك المجاملة فيه، والمحاباة لذي رحم وقربى، ووليٍ للدولة أو مولى؛ فالحكم لله ولخليفته في أرضه، والمستكين له لحكم الله وحكم وليه يستكين، والمتطأول عليه، والمباين للإجابة إليه، حقيقٌ بالإذالة والنهوض؛ فليتق الله أن يستحيي من أحد في حق له: {وَاللهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحَقِّ}.
وأمره أن يجعل جلوسه للحكم في المواضع الضاحية للمتحاكمين ويرفع عنهم حجابه، ويفتح لهم أبوابه، ويحسن لهم انتصابه، ويقسم بينهم لحظه ولفظه قسمةً لا يحابي فيها قوياً لقوته، ولا يردي فيها ضعيفاً لضعفه، بل يميل مع الحق ويجنح إلى جهته، ولا يكون إلا مع الحق وفي كفته، ويذكر بموقف الخصوم ومحاباتهم بين يديه موقفه ومحاباته بين يدي الحكم العدل الديان: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ من خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَهْ أنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أمَداً بَعِيداً ويُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَه}.
وأمره أن ينعم النظر في الشهود الذين إليهم يرجع وبهم يقطع في منافذ القضايا ومقاطع الأحكم، ويستشف أحوالهم استشفافاً شافياً، ويتعرف دخائلهم تعرفاً كافياً، ويسأل عن مذاهبهم وتقلبهم في سرهم وجهرهم، والجلي والخفي من أمورهم؛ فمن وجده منهم في العدالة والأمانة، والنزاهة والصيانة، وتحري الصدق، والشهادة بالحق، على الشيمة الحسنى، والطريقة المثلى، أبقاه وإلا كان بالإسقاط للشهادة أولى، وأن يطالع حضرة أمير المؤمنين بما يبدو له فيمن يعدله أو يرد شهادته ولا يقبله: ليكون في الأمرين على ما يحد له ويمثله، ويأمن فيما هذه سبيله كل خلل يدخله؛ إذ كانت الشهادة أس الأحكام، وإليها يرجع الحكام، والنظر فيمن يؤهل لها أحق شيءٍ بالإحكام؛ قال الله تقدست أسماؤه: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أنْفُسِكُمْ أوِ الْوَالِدَيْنِ والأقْرَبِين}. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهدُونَ الزُّورَ وَإذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً}.
وأمره أن يعمل بأمثلة أمير المؤمنين له فيمن يلي أموال الأيتام والوصايا وأولي الخلل في عقولهم، والعجز عن القيام بأموالهم، حتى يجوز أمرها على ما يرضى الله ووليه: من حياطتها وصيانتها من الأمناء عليهم، وحفظهم لها، ولفظهم لما يحرم ولا يحل أكله منها، فيتبوأ عند الله بعداً ومقتاً، آكل الحرام والموكل له سحتاً؛ قال الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتَامى ظُلْماً إنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}.
وأمره أن يشارف أئمة المساجد والقومة عليها، والخطباء بها والمؤذنين فيها، وسائر المتصرفين في مصالحها، مشارفةً لا يدخل معها خللٌ في شيء يلزم مثله: من تطهير ساحتها وأفنيتها، والاستبدال بما تبذل من حصرها في أحيانها، وعمارتها بالمصابيح في أوقاتها، والإنذار بالصلوات في ساعاتها، وإقامتها لأوقاتها، وتوفيتها حق ركوعها وسجودها، مع المحافظة على رسومها وحدودها، من غير اختراع ولا اختلاع لشيءٍ منها: {إنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ على المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً}.
وأمره أن يرعى دار الضرب وعيار الذهب والفضة بثقات يحتاطون عليهما من كل لبس، ولا يمكنون المتصرفين فيهما من سببٍ يدخل على المعاملين بهما شيئاً من الوكس؛ إذ كان بالعين والورق تتنأول الرباع، والضياع والمتاع، ويبتاع الرقيق، وتنعقد المناكح وتتقاضى الحقوق؛ فدخول الغش والدخل فيما هذه سبيله جرحةٌ للدين، وضررٌ على المسلمين، يتبرأ إلى الله منهما أمير المؤمنين.
وأمره أن يستعين على أعمال الأمصار التي لا يمكنه أن يشاهدها بأفضل وأعلم وأرشد وأعمد من تمكنه الاستعانة به على ما طوقه أمير المؤمنين في استعماله. قال الله عز وجل: {إنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمواتِ والأْرْضِ والْجِبَالِ فأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَهَا وأشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإْنْسَانُ إنَّه كانَ ظَلُوماً جَهُولاً}.
هذا ما عهد أمير المؤمنين فأوف بعهده، تهتد بهديه، وترشد برشده؛ وهذا أول إمرة أمرها لك فاعمل بها، وحاسب نفسك قبل حسابها، ولا تدع من عاجل النظر لها أن تنظر لمآبها: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْس ما عَمِلتْ وَهُمْ لا يُظْلمُونَ}.
وكتب في يوم الأحد لسبع ليالي بقين من صفر سنة 389.
المذهب الثالث من مذاهب كتاب الدولة الفاطمية أن يفتتح ما يكتب بالحمد لله:
أن يفتتح ما يكتب في الولايات بخطبة مبتدأةٍ بالحمد لله كما يكتب في أعلى الولايات في زماننا، ويقال: يحمده أمير المؤمنين على كذا وكذا، ويسأله أن يصلي على محمد وآله، وعلى جده علي بن أبي طالب ثم يقال: وإن أمير المؤمنين لم يزل ينظر فيمن يصلح لهذه الولاية، وإنه لم يجد من هو كفؤٌ لها غير المولى، وإنه ولاه تلك الوظيفة ثم يوصى بما يليق به من الوصية، ثم يقال: هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك، فاعمل به أو نحو ذلك مما يعطي هذا المعنى وقد أورد علي بن خلف من إنشائه في كتابه مواد البيان المؤلف في ترتيب الكتابة للدولة الفاطمية عدة تقاليد لأرباب السيوف.
منها- تقليد في رسم ما يكتب للوزير، وهو: الحمد لله المنفرد بالملكوت والسلطان، المستغني عن الوزراء والأعوان، خالق الخلق بلا ظهير، ومصورهم في أحسن تصوير، الذي دبر فأتقن التدبير، وعلا عن المكلف والمشير، المان على عباده بأن جعلهم بالتوازر إخواناً، وبالتظافر أعواناً، وأفقر بعضهم إلى بعض في انتظام أمورهم، وصلاح جمهورهم.
يحمده أمير المؤمنين أن استخلفه في الأرض، وناط به أسباب البرم والنقض، واسترعاه على بريته، واستخلصه لخلافته، وقيضه لإعزاز الإسلام، وحياطة الأنام، وإقامة الحدود وتنفيذ الأحكام، ويسأله الصلاة على سيدنا محمد خاتم الأنبياء، وخيرة الأصفياء، المؤيد فأفضل الظهراء، وأكمل الوزراء: علي بن أبي طالب المتكفل في حياته، بنصره وإظهار شريعته، والقائم بعد وفاته، مقامه في أمته، صلى الله عليهما، وعلى الأئمة من ذريتهما، مفاتيح الحقائق، ومصابيح الخلائق، وسلم، وشرف وكرم.
وإن الله تعالى نظر لخلقه بعين رحمته، وخص كلاً منهم بضرب من ضروب نعمته، وأقدرهم بالتعاضد، على انتظام أمورهم الوجودية، وأوجدهم السبل بالترافد، إلى استقامة شؤونهم الدنيوية: لتنبجس عيون المعاون بتوازرهم، وتدر أخلاف المرافق بتظافرهم.
وأولى الناس باتخاذ الوزراء، واستخلاص الظهراء، من جعله الله تعالى إلى حقه داعياً، ولخلقه راعياً، ولدار الإسلام حامياًن وعن حماه مرامياً، واستخلفه على الدنيا وكلفه سياسة المسلمين والمعاهدين، ولذلك سأل موسى عليه السلام وهو القوي الأمين، في استخلاص أخيه هارون لوزارته، وشد أزره بموازرته، فقال: {واجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أهْلِي * هارُونَ أخِي * اشْدُدْ به أزْرِي}، واستوزر محمدٌ صلى الله عليه وسلم وهو المؤيد المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ابن عمه علياً سيد الأوصياء، بدليل قوله له: «أنت مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» لأن الإمام لو تولى كل ما قرب وبعد بنفسه، وعول في حيطته على حواسه، لنص ذلك بتطرق الخلل، ودخول الوهن والشلل؛ وإنما تستعين الأئمة على ما كفلها الله بكفاة الأعوان، وأهل النصرة في الأديان، وذوي الاستقلال والتشمير، والمعرفة بوجوه السياسة والتدبير، والخبرة بمجاري الأعمال، وأبواب الأموال، ومصالح الرجال.
وإن أمير المؤمنين لم يزل يرتاد لوزارته حقيقاً بها مستحقاً نعتها، جامعاً بين الكفاية والغناء، والمناصحة والولاء، والأبوة والاختصاص، والطاعة والإخلاص، والنصرة والعزم، وأصالة الرأي والحزم، ونفاسة السياسة والتدبير، والنظر بالمصلحة في الصغير والكبير، والاحتيال والتأديب، وملابسة الأيام والتجريب، والانتماء إلى كريم المناجب، بضمير المناصب، ويكرر في الاختيار تقليده، ويجيل في الانتقاء تأمله وتدبره. وكلما عرضت له مخيلة قمن توافق إيثاره، أخلف نؤءها، وكلما لاحت له بارقةٌ تطابق اختياره، خبا ضوءها، حتى انتهت رويته إليك، وأوقفه ارتياده عليك، فرآك لها من بينهم أهلاً، وبتقمص سربالها أولى، وبالاستبداد بإمرتها أحق وأحرى: لاشتمالك على أعيان الخصائص التي كان زيادٌ لها جامعاً، وحلولك في أعيان المناقب التي لم تزل ترومها متحلياً بفرائدها، وما شهرت به من إفاضة العدل والإقساط، وإغاضة الجور والإشطاط، وإنالة الحق والإنصاف، وإزالة الظلم والإجحاف، ومراعاة النصح بإنسانك شاهداً، ومناجاته بحذارك جاهداً، ولنهوضك بالخطب إذا ألم وأشكل، والحادث إذا أهم وأعضل، وتفردك بالمساعي الصالحة، والآثار الواضحة، والطرائق الحميدة، والمذاهب السديدة، والتحلي بالنزاهة والظلف، والعطل من الطبع والنطف، وفضل السيرة، وصدق السريرة، ومحبة الخاصة والعامة، والمعرفة بقدر الأمانة، والاضطلاع بالصنيعة، والحفظ للوديعة.
فرأى أمير المؤمنين برأيه فيما يريه، ويقضي له بالصلاح فيما يعزم عليه ويمضيه، ويسدد مراميه ومساعيه، ويتعهده في جميع مقاصده بلطف تحلو ثماره، وتحسن عليه وعلى الكافة آثاره، أن قد ولاك النظر في مملكته، وأعمال دولته: برها وبحرها، وسهلها ووعرها، وبدوها وحضرها، ورد إليك سياسة رجالها وأجنادها، وكتابها وعرفائها، ورعيتها ودواوينها، وارتفاعها ووجوه جباياتها وأموالها، وعدق بك البسط والقبض، والبرم والنقض، والحط والرفع، والعطاء والمنع، والإنعام والودع، والتصريف والصرف، ثقةً بأن الصواب منوط بما تسدي وتلحم، وتفيض وتنظم، وتنقض وتبرم، وتصدر وتورد، وتقرر وتأتي وتذر، فلتهنأ هذه النعمة متملياً بملبسها، سارياً في قبسها، وتلقها من الشكر بما يسترهنها ويخلدها، ويقرها عليك ويؤبدها، واعرف ما أهلك له أمير المؤمنين من هذا المقام الأثير، والمحل الخطير؛ فإنما ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وأنت وإن كنت مكتفياً- بفضل حصافتك، وثقابة فطنتك، وحسن ديانتك، ووثاقة تجربتك- عن التبصير، مستغنياً عن التنبيه والتذكير، فإن أمير المؤمنين لا يمتنع أن يزيدك من مراشده، ما يقفك على سنن الصواب ومقاصده؛ وهو يأمرك بتقوى الله تعالى في سرك وجهرك، واستشعار خشيته ومراقبته؛ والله قد جعل لمن اتقاه مخرجاً من ضيق أمره وحرجه، ونصب له أعلاماً على مناهج فرجه. وأن تستعمل الإنصاف والعدل، وتسبغ الإحسان والفضل، وتلين كنفك، وتظهر لطفك، وتحسن سيرك، تفيض برك، وتصفح وتحلم، وتعفو وتكرم، وتبصر من ترجو صلاحه وتفهمه، وتنصف من أفرط جماحه وتقومه، وتأخذ بوثائق الحزم، وجوامع العزم، والغلظة والشدة على من طغى ولج في غيه وعتا، وبارز الله وأمير المؤمنين بالخلاف والشقاق، والانحراف والنفاق، مستعملاً فاضل التدبير عند الموادعة، وفاصل المكافحة عند المقارعة، مصلحاً للفاسد، مشتتاً للشارد، مكثراً لأولياء الدولة وخلصائها، وحاصداً لبغاتها وأعدائها، واعظاً مذكراً للغافل، مؤمناً للمظلوم الخائف، مخيفاً للظالم الحائف، مستصلحاً للمسيئين، مذكراً بإحسان المحسنين، متنجزاً لهم الجزاء على بلائهم في الطاعة وآثارهم في الخدمة. وأن تنظر في رجال الدولة على اختلافهم نظراً يسلك بهم سبيل السداد، ويجري أمورهم على أفضل العرف المعتاد؛ فأما الأماثل والأمراء، والأعيان والرؤساء، فتحفظ على من أحمدت طريقته، وعرف إخلاصه وطاعته، شعار رياسته، وتزيد في تكرمته، وتنتهي به إلى ما تتراءى إليه مواضي همته؛ وأما طوائف الأجناد فتقرهم على مراتبهم في ديوان الجيش المنصور، وتخصهم من عنايتك بالنصيب الموفور، وتستخدمهم في سد الثغور وتسديد الأمور، وتراعي وصول أطماعهم إليهم، أوقات الاستحقاق إليهم، وانفاقهم نصاب الوجوب منهم؛ وأما الكتاب المستخدمون منهم في استخراج الأموال، وعمارة الأعمال، فتخص كفاتهم بما تقتضيه كفايتهم، وأمناءهم بما توجبه أماناتهم، وتستبدل بالعاجز الخبيث الطعمة، والطبع المستشعر شعار المذمة: ليتحفظ النزه المأمون بنزاهته وأمانته، ويقلع الدنس الخؤون عن دنسه وخيانته، وتأمر من تختاره لخدمة أمير المؤمنين منهم أن يسيروا بالسير الفاضلة، ويعملوا على الرسوم العادلة، فلا يضيعوا حقاً لبيت مال المسلمين، ولا يخيفوا أحداً من المعاملين. وأما الرعية، فيأمرك أن تحكم بينها بالسوية، وتعتمدها بعدل القضية، وترفع عنها نير الجور، وتحميها من ولاة الظلم، تسوسها بالفضل والرأفة متى استقامت على الطاعة، وتأدبت في التباعة، وتقومها متى أجرت إلى المنازح والافتتان، وأصرت على مغضبة السلطان. وأما الأموال وهي العدة التي ترهف عزائم الأولياء، وتغض من نواظر الأعداء، فتستخرجها من محقها، وتضعها في مستحقها، وتجتهد في وفورها، وتتوفر على ما عاد بدرورها، وأن تطالع أمير المؤمنين بذره وجله، وعقد أمرك وحله، وتنهي إليه كل ما تعزم على إنهائه، وترجع فيه إلى آرائه: ليكرمك من مواد تبصيره وتعريفه، ويزيدك من هدايته وتوقيفه، بما يفضي بك إلى جادة الخير وسبيله، ويوضح لك علم النجاح ودليله.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك: وقد أودعه من تلويح الإشارة، ما يكتفى به عن تصريح العبارة، ثقةً بأنك الأريب الألمعي، والفطن اللوذعي، الذي تنتهي به متون التذكير إلى أطرافه وحواشيه، وتفضي به هوادي القول إلى أعجازه وتواليه.
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين، وكن عند حسن ظنه في فضلك، وصدق مخيلته في كمالك، والله تعالى يعرف أمير المؤمنين وجه الخيرة في تصيير أمره إليك، وتعويله في مهماته عليك، ويوفقك لشكر الموهبة في استخلاصك، والمنحة في اجتبائك، وينهضك بما حملك من أعباء مظاهرته، وجشمك من أثقال دولته، ويسددك إلى ما يدر عليك أخلاف نعمته، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
ومنها- ما أورده في رسم تقليد زم الأقارب: وهو التقدمة على أقارب الخليفة، وهذه نسخته:
الحمد لله الذي ابتدأ بنعمته ابتداءً واقتضاباً، وأعادها جزاءً وثواباً، وميز من اختصه بهداية خلقه، واستخلصه لإظهار حقه، بأضفاها عطافاً، وأصفاها نطافاً، وأحسنها شعاراً، وأجملها آثاراً، واستخرجهم من أطيب البرية أعراقاً، وأطهرها شيماً وأخلاقاً، وأقدمها سؤدداً ومجداً، وأكرمها أباً وجداًن وتوحد بأفضل ذلك وأعلاه، وأكمله وأسناه، محمداً صفوته من خلصائه، وخيرته من أنبيائه، فأظهره من المنجب الكريم، والمنجم الصميم، والدوحة الطاهر عنصرها، الشريف جوهرها، الحلو ثمرها، ورشح من اختاره من عترته لسياسة بريته، والدعاء إلى توحيده وطاعته.
يحمده أمير المؤمنين أن شرفه بميراث النبوة، وفضلة بأكرم الولادة والأبوة، وأحله في الذروة العالية من الخلافة، وناط به أمور الكافة، ويسأله الصلاة على جده محمد وعليٍ أبيه، صلى الله عليهما.
وإن أمير المؤمنين يرى أن من أشرف نعم الله عليه موقعاً، وألطف مواهبه لديه موضعاً، توفيقه للمحافظة على من يواشجه في كريم نسبه، ويمازجه في صميم حسبه، ويدانيه في طاهر مولده، ويقاربه في طيب محتده، وتنزيل كل ذي تميز منهم في دين وعلم، ودراية وفهم، وإحلاله بالمنزلة التي يستوجبها بفاضل نسبه، وفضل مكتسبه، ويبعث أنظاره على التحلي بخصاله، والتزين بخلاله: ليحصل لهم من فضل الخلائق والآداب، ما يضاهي الحاصل لهم من عراقة المناجب والأنساب؛ ولذلك لا يزال ينوط أمورهم، ويكل تدبيرهم، إلى أعيان دولته، وأماثل خاصته، الذين يعتادون حضرته ويراوحونها، ويطالعونه بحقائق أحوالهم وينهونها، ويستخرجون أمره في مصالحهم بما يذلل لهم قطوف إحسانه وطوله، ويعذب لهم مشارع بره وفضله؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
فإن كان العهد إلى خادم، قال: ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين معدوداً في أولي النباهة، المترشحين للاستقلال بأعباء دولته وذوي الوجاهة، المستخلصين لاستكفاء جلائل مملكته: لما اجتمع فيك من إباء النفس وعزتها، ووثاقة الديانة وحصافتها، وسداد السيرة واستقامتها، ونقاء السريرة وطهارتها، وتقيلك منهج أمير المؤمنين ومذهبه، وتمثلك بهديه وأدبه، ونشئك في قصور خلافته، وارتضاعك در طاعته- رأى- والله تعالى يعزم له على الخير في آرائه، ويوفقه لصالح القول والعمل في انحائه- أن قلدك زم بني عمه الأشارف الإسماعيليين ثقةً بسياستك وحميد طريقتك، وإنافةً لمنزلتك وإعراباً عن أثير مكانتك.
وإن كان العهد إلى شريف قيل بدلاً من هذا الفصل: ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين ممن زين شريف محتده، بمنيف سؤدده، وطاهر مولده، بظاهر محتده؛ وكريم تالده بنفيس طارفه، وجليل سالفه، بنبيل آنفه، مقتفياً سنن أوليتك، مفرعاً على أصول دوحتك، ضارباً بالسهم المعلى في الدين والعلم، حائزاً خصل السبق في الرجاحة والفهم، رأى أمير المؤمنين أن قلدك نقابة بني عمه الأشراف الفلانيين: ثقةً بأنك تعرف ما يجمعهم وإياك من الأرحام الواشجة، والأواصر المتمازجة، وتحسن السيرة بهم، والتعهد لهم والتوفر عليهم.
ثم يوصل الكلام بأي الخطابين قدم فيقال: فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين مستشعراً تقوى الله وطاعته، معتقداً خيفته ومراقبته، سائراً فيمن ولاك أمير المؤمنين بسيرته، مستناً بسنته، متأدباً بآدابه، مقتفياً مناهج صوابه، وإكرام هذه الأسرة التي خصها الله تعالى بكرامته، وفرض مودتها على أهل طاعته، ونزهها عن الأدناس، وطهرها من الأرجاس، فقال جل قائلاً: {إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
واعرف لهم حق مراتبهم الدانية من أمير المؤمنين، ونزلهم بحيث نزلهم الله من الدنيا والدين، واعتمد تعظيم مشايخهم توقيرهم، وسياسة شبانهم وتدبيرهم، وتقويم أخلاقهم وتثقيفهم، وخذهم بلزوم الطرائق الحميدة، والمذاهب السديدة، التي تليق بأصولهم الطاهرة، وفروعهم المثمرة، ومناحتهم الصميمة، ومناجبهم الكريمة، وتفقد منشاهم ومرباهم، وخلطاهم وقرباهم؛ فمن تناكرت أعراقه، وأخلاقه، وأنسابه، وآدابه، بالغت في تنبيهه وتعريفه، فإن نجع ذلك فيه وإلا بسطت يدك إلى تهذيبه، وإصلاحه وتأديبه: ليستيقظ من منامة غرته، ويرجع إلى اللائق بشرف ولادته؛ وانظر فيما أوقف عليهم من الأملاك والمستغلات، والضياع والإقطاعات، والرسوم والصلات، واندب لتولي ذلك من تسكن إلى ثقته وأمانته من الكتاب، وراع سيرته في عمارته، وطريقته في تثمير ماله وزيادته؛ فإن ألفيته كافياً أميناً أقررته، وإن وجدته عاجزاً خؤوناً صرفته، واستبدلت به من يحسن خبرك، ويطيب أثرك، وأجر الأمر في قسمته بين ذكورهم وإناثهم على الرسوم التي يشهد بها ديوانهم، واكتب الرقاع عنهم إلى الحضرة في اقتضاء رسومهم، وما يعرض من مهمات أمورهم، وتتنجز كل ما يتعلق بهم وتنوب عنهم فيه: لتستقيم شؤونهم بسياستك، وتنتظم أحوالهم بحسن سيرتك.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فاعمل به وانته إلى متضمنه، إن شاء الله تعالى.
ومنها- ما أورده في رسم تقليدٍ بنقابة العلويين، وهو: الحمد لله الذي انتجب من أسرار عباده قادةً جعلهم لمصالحهم نظاماً، وانتخب من أخيار خليقته سادةً صيرهم لأمورهم قواماً، وعدق بهم هداية من ضل، وتقويم من دل، وتعليم من جهل، وتذكير من غفل، ونصبهم أعلاماً على طرق الرشاد، وأدلة على سبل السداد.
يحمده أمير المؤمنين أن اختصه بأثرة الخلافة والإمامة، وميزه بمزية الولاية على الأمة والزعامة، وأنهضه بما كلفه من سياسة بريئته وتنزيلهم منازلهم من اختصاصه وإيثاره، وإحلالهم في محالهم من استخلاصه واختياره، ويسأله الصلاة على أشرف الأمم نجاراً وأطيبهم عنصراً، وأعظمهم مفخراً، سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه، وباب حكمته وعلمه، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الراسخ في نسبه، المداني له في حسبه، سيفه الباتر، ومعجزه الباهر، ومكاتفه المظاهر، وعلى الأئمة من ذريتهما المهديين، وسلم تسليماً.
وإن أمير المؤمنين- بما خصه الله تعالى من شرف المنجم والمولد، وكرم المحتد، وخوله من مناصب الخلفاء والأئمة، وناط به من إمامة الأمة- يرى أن من نعم الله التي يجب التحدث بشكرها، وتحق الإفاضة في نشرها، توفيقه للنظر في أحوال ذوي لحمته، وأولي مناسبته، المواشجين له في أرومته، المعتزين إلى كرم ولادته، وتوخيهم بما يرفلهم في ملابس الجمال، ويوقلهم في هضبات الجلال، ويرتبهم في الرتب التي يستوجبونها ويراها أولى بمغارسهم وأنسابهم، وماساً بأنفسهم وآدابهم؛ ولذلك يصرف اهتمامه إلى ما يجمع لهم بين شرف الأعراق، وكرم الأخلاق، وطهارة العناصر والأواصر، وحيازة المناقب والمآثر.
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين من جلتهم العلماء، وطهرتهم الأزكياء، وأبرارهم الصلحاء، وخيارهم الفضلاء، الذي تضارعت أخلاقهم وأعراقهم، وتقارعت أنسابهم وآدابهم، وتشاكهت مواردهم ومصادرهم، وتشابهت أوائلهم وأواخرهم، واتفقت جيوبهم ودخائلهم، وتوضحت عن الدين والخير مخايلهم؛ هذا مع ما يراعاه أمير المؤمنين من كريم مساعيك في خدمته، وإصابة مراميل في طاعته، واعتصامك بحبل متابعته، ونهوضك بحقوق ما أسبغه عليك من نعمته، رأى أمير المؤمنين- والله تعالى يقضي له في آرائه بحسن الاختيار، ويمده بالعون والتأييد في مجاري الأقدار- أن قلدك النقابة على الأشراف الطالبيين أجمعين، المقيمين بالحضرة وسائر أعمال المملكة شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، ثقةً بأنك تصدق مخيلته فيك واعتقاده، وتستدعي بكفاية ما استكفاك شكره وإحماده، وتستدر بالاستقلال والغناء أخلاف إحسانه وفضله، وتمتري بالاضطلاع بمضلع الأثقال فائض امتنانه وطوله؛ فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين عاملاً بتقوى الله وطاعته، مستشعراً لخيفته ومراقبته، وأحسن رعاية من عدق بك رعايته، وسياسة من وكل إليك سياسته، واعلم أن أمير المؤمنين قد ميزك على كافة أهل نسبك، وجميع من يواشجك في حسبك، وجعلك عليهم رئيساً ولهم سائساً، فاعرف لهم حق القرابة والمشابكة، وتشاجر الأنساب والمشاركة؛ فإن الله تعالى يقول: {قُلْ لاَ أسْألُكُمْ عَلَيْهِ أجْراً إلاَّ المَوَدّةَ في القُرْبى}، وعمهم جميعاً بالتوقير والإكرام، والتفقد والاهتمام، واتخذ شيخهم أباً، وكهلهم أخاً، وطفلهم ولداً، وافرض لهم من الحنان، والإشفاق والفضل والإحسان، ما تقتضيه الرحم الدانية، والأواصر المتقاربة، وكن مع ذلك متفقداً لأحوالهم، مطالعاً لسيرهم وأفعالهم؛ فمن ألفيته سالكاً لأقصد الطرائق، متخلقاً بأجمل الخلائق، حارساً لشرفه، متشبهاً بسلفه، فزده في الأثرة زيادةً ترغب أمثاله في اقتفاء مذهبه، وتبعثه على التأدب بأدبه، ومن وجدته مستحسناً ما لا يليق بصريح عرقه، راكباً ما ليس من طرقه، فأيقظه بنافع الوعظ، وذكره بناجع اللفظ؛ فإن استقام على الطريقة المثلى، ورجع إلى الأجدر والأولى، عرفت ذلك من فعله، وفرضت له ما تفرضه لصلحاء أهله: فإن الله تعالى قد فتح باب التوبة، ووعد بإقالة أهل الإنابة؛ ومن انحرف عن التذكير، وانصرف عن التبصير، وأصر وتمادى، وارتكب ما يوجب حداً، امتثلت أمر الله تعالى فيه، وأقمت الحد عليه، غير مصغٍ إلى شفاعة، ولا موجب لحق ذريعة: فإن أمير المؤمنين يصل من ذوي أنسابه، من وكدها بأسبابه، ويقطع من أوجب الحق قطيعته، ولا يراعي رحمه وقرابته. ووكل بهم من يروي إليك أخبارهم، ويكشف لك آثارهم: ليعلموا أنهم ببالٍ من مطالعتك، وبعينٍ من اهتمامك ومشارفتك، فيكبح ذلك جامحهم عن العثار والسقط، ويمنع طامحهم من الزلل والغلط، وتوخهم في خطابك بالإكرام، وميزهم عن محاورة العوام، ولا تقابل أحداً منهم ببذاء ولا سب، ولا قدح في أمٍ ولا أب، فإنهم فروع دوحة أمير المؤمنين وعترته الذين طهرهم الله من الأرجاس، وفرض قراهم على الناس، ووفر اهتمامك على صيانة النسب من الوكس، وحياطته من اللبس، فإنه نسب الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يتصل يوم انقطاع الأنساب، وسببه الذي يتشج يوم انفراط الأسباب، وأثبت أسماء كافة من يعتزي إلى هذا البيت منسوبةً إلى أصولها: لتأمن من دخيل ملصقٍ يتزور عليها، ومختلق ملحق ينضم إليها؛ وإن عرف مدعٍ نسباً لا حجة له فيه، ولا بينة عنده عليه، فغلظ له العقاب، واشهره شهرة تحجزه عن معاودة الكذاب، واحتط في أمر المناكح وصنها عن العوام، ووقر كرائم أهل البيت عن ملابسة اللئام؛ وإن ادعى أحدٌ من الرعية حقاً على شريفٍ فاحملها على السوية وعده بإنصاف خصمه، وامنعه من ظلمه، وإن ثبت أيضاً في مجلس الحكم حقٌ على أحد من الأشراف فانزعه منه وول على من في البلاد، أهل السداد منهم والرشاد، ومرهم بتقيل مذهبك، ونقل أدبك، واصرف اهتمامك إلى حفظ أوقافهم وأملاكهم ومستغلاتهم في سائر الأعمال، وحطها من العفاء والاضمحلال، وتوفر على تثمير ارتفاعها، وتزجية مالها، واستخدم لضبط حاصلها، وجهات منفقها، من تسكن إلى ثقته، وتثق بنهضته، ووزع ما يرتفع من استغلالها بينهم على رتبهم التي يشهد بها ديوانهم.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فآنته إليه منتهجاً لتمثيله، معتمداً بدليله، وطالع أمير المؤمنين بما التبس عليك وأبهم، وأشكل واستعجم: ليقفك على واضح السنن، ورشدك إلى أحسن السنن، واستعن بالله يهدك لمعونته، واستهده يؤيدك بهدايته، إن شاء الله تعالى.
ومنها- ما أورده في رسم تقليدٍ بزم طوائف الرجال.
الحمد لله البديع تقديره، الحكيم تدبيره، الذي أتقن ما صنع وأحكمه، وكمل ما أبدع وتممه، وأعطى كل مصلحة من مصالح عباده نظاماً، وكل مرفق من مرافق خلقه قواماً، فلا يقارب فيما خلق وصور، ولا يشاكل فيما قدر ودبر، ورأب ثلم بريته بمن استخلصه من خاصتها، لسياسة عامتها، وانتخبه من أشرافها، لتسديد أطرافها، وإقامة من سادها لإصلاح فاسدها وتقويم مائدها، وتوقيفها على سنن الصواب، وتعريفها بمحاسن الآداب.
يحمده أمير المؤمنين أن أحله في المنزلة العلية: من اصطفائه واستخلاصه، والذروة السنية: من اجتبائه واختصاصه، وفوض إليه تنزيل الرتب وتخويلها، وإقرار المنازل وتحويلها، وناط به البرم والنقض، والرفع والخفض، والريش والحص، والزيادة والنقص، وسوغه الشكر على مواهبه السابغ عطافها، الفسيحة أكتافها، البعيدة أطرافها، ويسأله أن يصلي على نبي الرحمة، ومفيد الحكمة، سيدنا محمد خاتم الرسل، وموضح السبل، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه، وخليفته على أمته وقومه: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، ومولى المسلمين، وعلى الأئمة من ذريتهما الطاهرين.
وإن أمير المؤمنين بما فوضه الله تعالى إليه من حماية الأنام، والمراماة عن دار الإسلام، وكفله من غض نواظر أهل العناد، وتنكيس رؤوس رؤساء الإلحاد، لا يزال ينظر في مصالح عبيده، وتوفر سياسة رجال دولته وجنوده، الذين هم حزب الله الغالبون، وجنده المنصورون، ويرد النظر في أمورهم، والتقدم عليهم، وزم طوائفهم، إلى خواص دولته، وأعيان مملكته، الذين بلا طرائقهم وحمد خلائقهم: من الغناء والكفاية، والسداد وحسن السياسة، ونقلهم في الخدم فاستقلوا بأعبائها وأثقالها، ونهضوا بناهض أعمالها، ومضت عزائمهم في حياطة البيضة، واشتدت صرائمهم في تحصين الحوزة، وصدقت نياتهم في المراماة عن الملة، والمحاماة عن الدعوة والدولة.
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين معداً لمهماته، معدوداً في أماثل كفاته، مشهوراً بحسن السياسة لما تورده وتصدره، معروفاً بفضل السيرة فيما تأتيه وتذره، رأى أمير المؤمنين- والله يرشده لأعود الآراء بالصلاح والإصلاح، وأدناها من الخير والنجاح- أن قلدك زمام طائفة الرجال الفلانيين ويوصفون بما تقتضيه مكانتهم من الدولة وحسن سيرهم في الخدمة إنافةً بقدرك، وإبانةً عن خطرك، وتنويهاً بذكرك، وتفخيماً لأمرك.
وهو يأمرك بتقوى الله تعالى وطاعته، واستشعار مراقبته، ورياضة خلائقك على محبة العدل، وإيثار الفضل، واتباع اللطف، واجتناب العسف، وتوخي الإنصاف، وبسط الهيبة من غير إجحاف، وأن تخص هذه الطائفة من النظر في أمورها، وتعهد صغيرها وكبيرها، بما يسدد أحوالها، ويحقق آمالها، وتأخذها بأحسن الآداب اللائقة بأمثالها، وسلوك الطريقة المعهود من أعيانها وأماثلها، وتشعرها من أمير المؤمنين بما يشرح صدرها في خدمته، ويقر عينها في طاعته، والمسارعة إلى مكافحة أعدائه، والتميز في نصرة أوليائه، وتطالع بحال من يستحق الاحترام، ويستوجب إفاضة الإنعام، وتكتب الرقاع عنها مستدعياً للرباطات في الأطماع والعاجزين شاملاً في التعويد والتأمير والتلقيب والولايات قاصداً في ذلك ما يفسح آمالها في الآجال، ويوثقها بدرور الأمثال، فإنهم أمراء الحروب، وكفاة الخطوب، الذين يجاهدون عن الحوزة، ويرامون عن الدولة، وافرض لهم من الإكرام، وتام الاهتمام، ما تقتضيه مكانتهم في الدولة، وموضعهم من الخدمة، وتكفل أوساطهم بالرعاية، واصرف إليهم شطراً موفوراً من العناية، وألحق من برز منهم وتقدم، ونهض وخدم، بنظرائه وأمثاله، وساو بينه وبين أشكاله، وتعهد أطرافهم بملاحظتك، وتفقدهم بسياستك؛ وخذهم بلزوم السير الحميدة، والمذاهب السديدة، والتوفر على ما يرهف عزائمهم، ويؤيد أيديهم، ولا تفسح لأحد من هذه المذاهب في مخالطة العوام ولا مشاركة التجار والاحتراف، ووكل بهم من النقباء من يبتلي سيرهم، وينهي إليك أخبارهم: فمن علمته قد اجترأ إلى نسخ المذهب، فتنأوله بأليم الأدب، واحضضهم على الإدمان في نقل السلاح، والضرب بالسيف، والمطاعنة بالرمح، والإرماء عن القوس، وميز من مهر واستقل، وقصر بمن ضجع وأخل، فهم كالجوارح التي ينفعها التعليم والإجراء، ويضرها الإهمال والإبقاء؛ وفي صرفك الاهتمام إليهم ما يزيد في رغبة ذي الهمة العلية، ويبعث المعروف في النفس الدنية، وأن تطالبهم بالاستعداد، وارتباط الخيول الجياد، والاستكثار من السلاح الشاك والجنن، وليكن ما تطالبهم بإعداده من هذه الأصناف على حسب الفروض من العطاء، ولا ترخص لأحد في الاقتناع بما لا يليق بمنزلته، والرضا بما يقع دون ما يعتده أماثل طبقته. ومن مات من هذه الطائفة وخلف ولداً يتيماً فضمه إلى أمثاله، وانظر في حاله، ووكل به من يفقهه في دينه، ويعلمه ما لا غنى به عن تعليمه من كتاب الله وسنته، ومن يهذبه في الخدمةويعلمه العمل بآلاتها، والتنقل في حالاتها، ويطلق له من إنعام أمير المؤمنين ما يقوم بكلفتها ولوازمها، وخذ كل من تقدمهم بخدمها والجري على عادتها في النهوض بما يستنهض به، ولا يفسح لها في التثاقل عنه، وسو بينهم في الاستخدام، ولا تخص قوماً دون قوم بالترفيه والإجمام؛ فإن في ذلك إرهافاً لعزائمهم، وتقويةً لمننهم، وإفاضة العدل عليهم.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، قد وكد به الحجة عليك؛ فتأمله ناظراً، وراجعه متدبراً، وانته إلى مصايره ومراشده، واعمل على رسومه وحدوده، يوفق الله مقاصدك، ويسعد مصالحك ويتولاك، إن شاء الله تعالى.
ورسوم هذه العهود يتفاضل الخطاب فيها بحسب تفاضل الطوائف ومن يولى عليها. وهذا الأنموذج متوسط تمكن الزيادة عليه والنقص منه.
ومنها- ما أورده في رسم تقليد بإمارة الحج، وهذه نسخته: الحمد لله الذي طهر بيته من الأرجاس، وجعله مثابةً للناس، وآمن من حله ونزله، وأوجب أجر من هاجر إليه ووصله.
يحمده أمير المؤمنين أن خصه بحيازة البيت الأعظم، والحجر المكرم، والحطيم وزمزم؛ وأفضى إليه ميراث النبوة والإمامة، وتراث الخلافة والزعامة، وجعله لفرضه موفياً، ولحقوقه مؤدياً، ولحدوده حافظاً، ولشرائعه ملاحظاً، ويسأله أن يصلي على من أمره بالتأذين في الناس بالحج إلى بيته الحرام لشهادة منافعهم، وتأدية مناسكهم، وقضاء تفثهم، ووفاء نذرهم، وذكر خالقهم، والطواف بحرمه، والشكر على نعمه: سيدنا محمدٍ رسوله صلى الله عليه وعلى وصيه وخليفته، وباب مدينة علمه وحكمته: علي بن أبي طالب سيد الوصيين، وعلى الأئمة من ذريتهما الطاهرين.
وإن أولى ما صرف أمير المؤمنين إليه همته، ووفر عليه رعايته، مثابراً عليه، وناهضاً لحق الله تعالى فيه، النظر في أمر رفق الحجيج الشاخصة إلى بيت الله الحرام، وزيارة قبر نبيه عليه أفضل الصلاة والسلام، ورده إلى من حل محلك من الدين، وتميز بما تميز به صلحاء المسلمين: من العلم، ورجاحة الحلم، ونفاذ البصيرة، وحسن السريرة، وعدل السيرة؛ ولذلك رأى أمير المؤمنين أن قلدك أمر رفق الحجيج المتوجهة من موضع كذا إلى الحرمين المحروسين، وولاك الحرب والأحداث بها: واثقاً باستقلالك غنائك، وسدادك وإصابة آرائك؛ فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين بعزمٍ ثاقب، ورأىٍ صائب، وهمة ماضية، ونفس سأمية، وشمر فيه تشميراً يعرب عن محلك من الاضطلاع، ويدل على استقلالك بحق الاصطناع، وخص الحجاج بأتم الأحظ، وكن من أمرهم على تيقظ، واعتمد ترقبهم في المسير، وسو في رعايتهم بين الصغير والكبير، فإنهم جميعاً إلى الله متوجهون، وإلى بيته الحرام قاصدون، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وافدون، قد استقربوا بعيد الشقة، واستدمثوا خشن المشقة، رغبةً في ثواب الله وعفوه، والنجاة من عقابه وسطوه، وتقرباً إليه بارتسام أمره وطاعته، وإيجاباً للحرمة بالحلول في عراص بيته وأفنيته؛ فمرافدتهم واجبة، ومساعدتهم لازبة، حتى يصلوا إلى بغيتهم وقد شملتهم السلامة في الأنفس والأموال، والأمنة في الخيل والرجال: متوجهين وقارين وقافلين، بعد أن يشهدوا منافعهم، ويؤدوا مناسكهم، ويعملوا بما حد لهم. وردهم في سيرهم عن الازدحام، ورتبهم على الانتظام، وراعهم في ورود المناهل، وامنعهم عن التحادث عليها والتكاثر فيها، حتى لا ينفصلوا منها إلا بعد الارتواء، ووقوع التساوي والاكتفاء، وقدم أمامهم من يمنعهم من التسرع، وأخر وراءهم من يحفظهم من التقطع، ورتب ساقتهم، ولا تخل بحفظهم من جميع جهاتهم، وطالع أمير المؤمنين في كل منزل تنزله ومحلٍ تحله بحقيقة أمرك ليقف عليها، ويمدك بما ينهضك فيها.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فتدبره عاملاً عليه، متبصراً بما فيه، عاملاً بما يحسن موقعه لك؛ ويزيدك من رضا الله وثوابه، إن شاء الله تعالى.
ومنها- ما أورده في رسم تقليد الإمارة على الجهاد، وهذه نسخته.
الحمد لله الصادق وعده، الغالب جنده، ناصر الحق ومديله، وخاذل الباطل ومذيله، محل النكب بمن انصرف عن سبيله، ومنزل العقاب بمن تحرف عن دليله، الذي اختار دين الإسلام فأعلى مناره، ووضح أنواره، واستخلص له من أوليائه أعضاداً لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا يغمضون عن المكافحة دونه جفن حالم، وجزاهم على سعيهم في نصرته جزاءً فيه يتنافس المتنافسون، وإلى غاياته يرتمي بالهمم المجدون، قصداً من الله تعالى في إعزاز دينه، وإنجاز ما وعد به خلفاءه من إظهاره وتمكينه، وقطاً لشوكة أهل العناد، وتعفيةً لآثار ذوي الفساد، وتوفيراً لأحاظي من بذل الاجتهاد، من سعداء عباده في الجهاد.
يحمده أمير المؤمنين أن اختصه بلطيف الصنع فيما استرعاه، ووفقه للعمل بما يرضيه فيما ولاه، وأعانه على المراماة عن دار المسلمين، والمحاماة عن ذمار الدين، ومجاهدة من ند عنهما صادفاً، ونكب عن سبيلهما منصرفاً، وإبادة من عند عن طاعته واتخذ معه إلهاً آخر لا إله إلا هو سبحانه وتعالى عما يقول المشركون علواً كبيراً؛ واستنزالهم من صياصيهم قهراً واقتساراً، وإخراجهم عن بيوتهم عزاً واقتداراً، وإذاقتهم وبال أمرهم وعاقبة كفرهم، اتباعاً لقول الله تعالى إذ يقولك {يا أيها الَّذينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الكُفَّارِ وَلْيجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً واعْلَمُوا أنَّ اللهَ مع المُتَّقِينَ}.
ويسأله أن يصلي على أشهر الخلق نوراً وفضلاً، وأطهر البرية فرعاً وأصلاً، وأرشد الأنبياء دليلاً، وأقصد الرسل سبيلاً: محمدٍ رسوله الذي ابتعثه وقد توعر طريق الحق عافياً، وتغور نور الهدى خافياً؛ والناس يتسكعون في حنادس الغمرات، ويتورطون في مهاوي الهلكات، لا يعرفون أنهم ضلالٌ فيستهدون، ولا عميٌ فيستبصرون، فأيده وعضده، ووفقه وسدده، ونصره وأظهره، وأعانه وآزره، وانتخب له من صفوة خلقه، أولياء كاتفوه على ظهور حقه، سمحوا بالأنفس العزيزة، والأموال الحريزة، وجاهدوا معه بأيدٍ باسطةٍ ماضية، وعزائم متكافية متوافية، وقلوبٍ على الكفار قاسية، وعلى المؤمنين رؤوفة حانية؛ فلما صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وارتسموا أمره وانتهوا إليه، شركهم معه في الوصف والثناء، وأضافهم إليه في المدح والإطراء، فقال جل قائلاً: {محمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أشِدّاءُ على الكُفَّارِ رُحماءُ بَيْنَهُم}، صلى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سيف الله الفاصل، وسنانه العامل، ومعجز رسوله الباهر، ووزيره المظاهر، مبيد الشجعان، ومبير الأقران، ومقطر الفرسان، ومكسر الصلبان، ومنكس الأوثان، ومعز الإيمان، الذي سبق الناس إلى الإسلام، وتقدمهم في الصلاة والصيام، وعلى الأئمة من ذريتهما الميامين، البررة الطاهرين، وسلم تسليماً.
وإن أمير المؤمنين بما كلفه الله تعالى من أمر دينه ووعده من إظهاره وتمكينه؛ يرى أن أفضل ما رنا إليه ببصر بصيرته، ورمى نحوه بطامح همته، ما شملت الدين والدنيا بركته، وعمت الإسلام والمسلمين عائدته، وحل محل الغيث إذا تدفق وهمع، النهار إذا تألق ولمع. ولا شيء أعود على الأمة، وأدعى إلى سبوغ النعمة من علو كلمتهم، وارتفاع رايتهم، وتحصين حوزتهم، وإيمان منصتهم، وتأدية الفريضة في مجاهدة أعدائهم، وصرفهم عن غلوائهم، واقتيادهم بالإذلال والصغار، وكبحهم بشكائم الإهوان والاقتسار، ومواصلتهم بغزو الديار، وتعفية الآثار، وإيداع الرعب في صدورهم، وتكذيب أماني غرورهم، ووعظهم بألسنة القواضب، ومكاتبتهم على أيدي الكتائب: لما في ذلك من ذل الشرك وثبوره، وعز التوحيد وظهوره، ووضوح حجة أولياء الله تعالى على أعدائه بما ينزله عليهم من نصره ومعونته، ويؤيدهم به من تأييده وعنايته؛ لا جرم أن أمير المؤمنين مصروف العزمة، موقوف الهمة، على تنفيذ البعوث والسرايا، والمواصلة بالجيوش والعرايا، وتجهيز المرتزقة من أولياء الدولة، وحض المطوعة من أهل الملة، على ما أمر الله تعالى به من غزو المشركين، وجهاد الملحدين، نافذاً في ذلك بنفسه، وباذلاً فيه عزيز مهجته، عند تسهل السبل إلى البعثة، ووجود الفسحة، ومعولاً فيه عند التعذر على أهل الشجاعة والرجاحة من أعيان أهل الإسلام الذين أيقنت ضمائرهم، وخلصت بصائرهم، ورغبوا في عاجل الذكر الجميل وآجل الأجر الجزيل، وأمير المؤمنين يسأل الله تعالى أن يجريه فيما يصدر ويورد، على أفضل ما لم يزل يولى ويعود: من التوفيق في رأيه وعزمه، والتسديد في تدبيره وحزمه، ويؤتيه من ذلك أفضل ما آتاه ولياً استخلفه، وأميناً كفله عباده وكلفه؛ وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله عليه يتوكل وإليه ينيب.
ولما كنت بحضرة أمير المؤمنين ممن يعده لجلائل مهماته، ويعده من أعيان كفاته، ورآه سداداً للخلل، وعماداً في الحادث الجلل، وسهماً في كنانته صائباً وشهاباً في سماء دولته ثاقباً، وسيفاً بيد الدين قاطعاً، ومجناً عن الحوزة دافعاً، رأى- وبالله التوفيق- أن يقدمك على جيوش المسلمين، وبعوثهم الشاخصة إلى جهاد المشركين؛ فقلدك الحرب والأحداث بها، وعقد لك لواءً بيده يلوي إليك الأعناق، وينكس لك رؤوس أهل الشقاق، وشرفك بفاخر ملابسه وحملانه، وضاعف لديك مواد إحسانه، وحباك بطوقٍ من التبر، مرصع بفاخر الدر، عادقاً هذه الخدمة منك بالنصيح المأمون، والنجيح الميمون، الذي تتوضح فيه أنوار اللبابة، وتلوح عليه آثار النجابة، واثقاً بما تنطوي عليه من الإخلاص والولاية، وتتحلى به من الغناء والكفاية، ويفترضه من الاستمرار على سنن الطاعة، والاستقامة على سمت الانقياد والتباعة، وتوجبه من مناصحة المسلمين، والتشمير في نصرة الدين.
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين مستشعراً تقوى الله وطاعته في الإسرار والإعلان، معتقداً خيفته ومراقبته في الإظهار والإبطان، مخلص القلب، رابط اللب، واثقاً بنصر الله الذي يسبغه على خلصائه، ويفرغه على أوليائه، آخذاً بوثائق الحزم، متمسكاً بعلائق العزم، ناظراً من وراء العواقب، متفرساً في وجوه التجارب، مقلصاً سجوف الآراء بإضفاء غيرا التدبير، ممراً مرائر التقرير، موغلاً في المخاتل والمكايد، حارساً للمطالع والمراصد، يقظان النفس والناظر، متحرزاً في موقف الواني والمخاطر، وأن تتوجه على بركة الله وعونه وحسن توفيقه، ويمن تأييده، بعد أن تتسلم من الجيوش المنصورة جرائد بعدة رجال أمير المؤمنين السائرين تحت رايتك، المنوطين بسياستك، وتعرضهم عليها، فتتخير من شهرت بسالته وكفاحه، وعتق جواده وكمل سلاحه، وعرف بصدق العزيمة في مقارعة الأعداء، وحسن الطوية في الإخلاص والولاء، وتستبدل بالورع الجبان، والرعديد الضعيف الجنان، الناقص العدة، المقصر النجدة، المدخول النية، النغل الطوية، فإذا كملت العدة من أهل الجلد والشهامة، وأولي الحماسة والصرامة، استدعيت من بيت المال ما ينفق فيهم من مستحق أطماعهم، ومعونة طريقهم، وأجريت النفقة فيهم على أيدي عارضيهم وكتابهم، فإذا أزحت عللهم فاستصحب من العدد والسلاح والخيم والأزواد والأموال ما يرهب الأعداء، وينهض الأولياء، وأذن في مطوعة المسلمين، بجهاد المشركين؛ في كل بلدةٍ تنزلها، ومحلة تحلها، وابذل لهم الظهر والميرة والمعونة بالسلاح وما يستدعونه، وأرهف عزائمهم في غزو الكفار، وإجلائهم عن الأوطان والديار، واسلك الطريق القاصد، ولا تفارق أهل المناهل والموارد، ولا تغذ السير إغذاذاً تنقطع له الرجال وتتأخر به الأزواد، ولا تتلوم في المنازل تلوماً تتصرم فيه الآماد، ويوجد المشركين مهلة للاحتيال والاستعداد، وراع جيشك عند الحل والترحال، ولا تباعد بين مضاربهم إذا نزلوا، ولا تمكنهم من التفرد إذا ارتحلوا، وخذهم بالاجتماع والالتئام، والتآلف والانتظام، ولا سيما إذا حصلوا في أرض العدو فإنهم ربما اهتبلوا الفرصة في المسير المتسرع، والمبيت المتفرد، ونالوا منه ما تتوسم به الهضيمة على أهل الإسلام؛ والعياذ بالله. وإذا دانيت القوم فأعط الحزامة حقها، مستعملاً تارةً للدهاء والخداع، وأخرى للقاء والقراع؛ فربما أغنت المساترة عن المكاشرة، ونابت مخايل التلطف عن مداخل التعسف، وكفت غوائل المخادعة، عن مواقف المماصعة؛ وقد قال إمام الحرب، وزعيم الطعن والضرب: الحرب خدعةٌ. وإذا عزمت على المصاع والمنافحة، والإيقاع والمكافحة، فبث من سرعان الفرسان الذين لا تشك في محض نصحهم، ولا ترتاب بصدق نياتهم، طلائع تطلعك على الأخبار، وعيوناً تكشف لك حقائق الآثار، وتغض الطرف عن مجاوري الديار، ومر من تقدمه عليهم بأن لا يقتحم خطراً، ولا يركب غرراً، وليكن من تنفذه في ذلك من أهل الخبرة بالطرق والساحات، والدخلات والأدوية والفجوات، حتى لا يتم للعدو فيهم حيلة، ولا ينالهم منه غيلة؛ فإذا أتوك بالخبر اليقين، وأقبسوك قبس النور المبين، بدأت الحرب مستخيراً لله تعالى، مقدماً أمامك الاستنجاح به، واستنزال النصر من عنده، مرتباً للكتائب، معيباً للصفوف والمقانب، زاحفاً بالراجل محصناً بالفارس والرامي مجتناً بالتارس، واشحن القلب والجناحين بالشجعان المستبقين، والأبطال الحلاسين، وأنزل إلى رحى الحرب من خف ركابه من الأنجاد الراغبين في علو الصيت والذكر، الطالبين الفوز بالثواب والأجر، واجعل وراءهم ردءاً، وأعدلهم مدداً يوازرونهم إن يجئهم ما لا يطيقونه ويحين، ويطايرونهم على ما خلص إليهم وادعين، وقف من التأخير والإقدام، والنفود والإحجام، موقفاً تعطي الحزامة فيه حظها، والروية قسطها، مصمماً ما كان التصميم أدنى لانتهاز الفرصة، واهتبال الغرة، متلوماً ما كان التلوم أحمد للعاقبة، وأسلم للمغبة.
واعلم أن ريح النصر قد تهب للكافرين على المسلمين؛ فلا يكن ذلك قادحاً منك في الدين، فإن الله تعالى يستدرج بسنة الباطل لا بسنة الإظفار، ويريهم الإقدار في مخايل الأقدار، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أوردتهم كواذب أمانيهم موارد الهلكة، وأخذوا بغتة، ودالت دولة الحق لأوليائها مرفوعة الأعلام، آخذةً بنواصي العداة والأقدام؛ وتحقق أن الأمور بخواتيمها، والأعمال بتمامها؛ وأنه ولي المؤمنين. ما جمع موقفٌ فئتي شكٍ ويقين، وكفر ودين، إلا كان الفلج والنصر لأهل التقى والدين، والخسارة والبوار على الشاكين الكافرين، تصديقاً لوعده تعالى إذ يقولك {ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلمتُنَا لِعِبادِنَا المُرْسَلِينَ * إنَّهُمْ لَهُمُ المَنْصُورُون * وإنَّ جُنْدنا لَهُمُ الغالِبُون}.
وتحفظ بنفسك ولا تلقها في المهالك متهوراً، ولا ترم بها في المتالف مخاطراً، ولا تساعدها على مطاوعة الحمية والنخوة، وتحرز قبل السقطة والهفوة، فإنك- وإن كنت واحداً من الجيش- أوحدهم الذين يتبادرون إليه، ويعتمدون في السياسة عليه؛ وما دمت محفوظاً ملحوظاً فالهيبة عالية، والعين سأمية؛ وإن ألم بك- والله يعصمك- خطب، أو نالك- والله يكفيك- ريب، توجه الخلل، وأرهف حد الوهن والشلل. وإن دعتك نفسك إلى الجهاد، وحملك تصرفك على الكفاح والجلاد، فليكن ذلك عند الإحجام، وتزلزل الأقدام: فإن ذلك يشحذ عزائم المسلمين، ويقوي شكائم المتأخرين، غير مضيعٍ للحذر في الورد والصدر؛ وكذلك فاحرس أماثل القواد، ووجوه الأجناد، الذين تشفى صدور الكفار بمصارعهم، وتنقع غللهم بمضايعهم، وحام عنهم حماية الجفون عن المقل، وصنهم صيانة الصوارم من الخلل، ودافع عن كافة جند المسلمين المرتزقين والمتطوعين، فإن الله تعالى قد كافى بين دمائهم، وسوى بين ضعفائهم وأقويائهم؛ على أنه سبحانه قد وعدهم عن بذل الأنفس في مجاهدة الملحدين، وإبادة المشركين، الجزاء الجسيم، والنعيم المقيم، والبقاء الذي لا يعتوره فناء، والجذل الذي لا يعترضه انقضاء.
وقدم على الأساطيل والمراكب الحربية وأعمالها ورجال البحر من تختاره لذلك من أماثل الأمراء المشهورين بالشدة والنجدة، والبصارة والمهارة والخبرة بشقة البحر والقتال فيه، ومره بالتسحيل وملازمة السيف والإرساء من الشطوط بحيث يتأمل مضاربك، ليكون ما حمل عليها من ميرةٍ وعدةٍ قريباً منك؛ فإن نازلت ثغراً من ثغور الساحل فاملأه بالخيل من بره، وبالسفائن من بحره، واستخدم لحفظ ما فيها من الأزواد والأسلحة والعدد والنفط ودهن البلسان والحبال والعرادات وغيرها من الآلات من تثق بأمانته ومعرفته، وتقدم إليهم بالحوطة على ما يخرجونه من العواري واسترجاعه بعدى الغنى عنه، واستظهر بذلك استظهاراً يحمد موقعه لك، ويعرف به رصين رأيك، وسديد مذهبك. واستخلص لمجالستك من أهل الأصالة والحزم، والرجاحة والفهم، والدراية والعلم، والتجارب في ممارسة الحروب، وملابسة الخطوب، من ترجع إلى رأيه فيما أشكل، وتعتمد على تجربته فيما أعضل؛ ولا تستبد برأيك فإن الاستبداد يعمي المراشد، ويبهم المقاصد.
ولما كانت الشورى لقاح الأفهام، والكاشفة لغواشي الإبهام، أمر الله تعالى بها نبيه عليه السلام فقال: {وشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ فإذا عَزَمْتَ فَتَوكَّلْ على اللهِ إنَّ اللهَ يُحِبُّ المتوكِّلين}.
ولا تشاور جباناً ولا مثبطاً عن انتهاز الفرصة الممكنة، ولا متهوراً يحملك على الغرة المهلكة، وتأن في الآراء فإن التأني يجم الألباب، ويجلو وجه الصواب، ويقلص سجوف الارتياب، واضرب بعض الآراء ببعضٍ وسجلها، وأجل فكرك فيها وتأملها؛ فإذا صرحت عن زبدتها، وانشقت أكمامها عن ثمرتها، فأمض صحيحها، واعتمد نجيحها؛ وإذا استوى بك وبالعدو مرحى الحرب فحرقهم بنار الطعن، وأذقهم وبال أمرهم، وعاقبة كفرهم، ولا ترق لهم واتبع ما أمر الله تعالى به في الغلظة عليهم، فإنه يقول: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِنَ الكُفَّارِ ولْيَجِدُوا فِيكُم غِلْظَةً واعْلَمُوا أنَّ الله مَعَ المُتَّقِينَ}؛ فإن جنحوا للسلم والموادعة مصانعين، فقابل بالقبول، فإن الله تعالى يقول: {وَإنْ جَنَحُوا لِلسَّلم فاجْنَحْ لَهَا وتَوَكَّلْ عَلى اللهِ إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ}. وابذل الأمان لمن طلبه، واعرضه على من لم يطلبه، وف لمن تعاهده بعهده، واثبت لمن تعاقده على عقده، ولا تجعل ما تفرطه من ذلك ذريعةً إلى الخديعة، ولا وسيلة إلى الغيلة، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أوْفُوا بالعُقُود}، ورسوله صلى الله عليه وسلم يقول: «الناس عند شروطهم، وإذا أعانك الله على افتتاح معاقل المشركين، واستضافته إلى ما بأيدي المسلمين، فارفع السيف عن قاطنيه، واعتمد اللطف بالمقيمين فيه، وادعهم إلى الإسلام، واتل عليهم ما وعد الله به أهله من كريم المقام؛ فمن أجابك إلى استشعار ظله، والاعتصام بحبله، فافرض له ما تفرضه لإخوانك في الدين، واضمم إليهم علماء المسلمين من يبصرهم ويرشدهم، ويثقفهم ويسددهم، وخير من آثر المقام على دينه بين تأدية الجزية، والاستعباد والمملكة؛ فإن أدوا الجزية فأجرهم مجرى أهل الذمة المعاهدين، وخصهم من الرعاية بما أمر به في الدين، وإن أبوا ذلك فإن الله تعالى قد أباح دماء رجالهم، واستعباد ذراريهم ونسائهم، وابتن بالمعقل مسجداً جامعاً يجمع فيه بالمسلمين، ويخطب على منبره لأمير المؤمنين، وارفع منارته حتى تعلو على كنائس المشركين، وانصب فيه إماماً يؤدي الصلاة في أوقاتها، وخطيباً مصقعاً يخطب الناس ويعظهم، ومكبرين يدعون إلى الصلوات، وينبهون على حقائق الأوقات، وقواماً وخداماً يتولون تنوير مصابيحه، وتعهد تنظيفه وفرشه، وأطلق لهم من الأرزاق والجرايات ما يبعثهم على ملازمته ويعينهم على خدمته، واحتط على من يحصل في يدك من أسرى المشركين، لتفدي بهم من في قبضتهم من أسراء المسلمين، وإذا عرضوا عليك الفداء فاحذر من خديعةٍ تتم فيه، أو حيلة تتوجه في افتكاك معروفٍ منهم بمجهولٍ من أهل الإسلام؛ وإن كان الله تعالى قد فضل أدنياء المسلمين على عظماء الملحدين، ولم يسو بينهم في دنيا ولا آخرةٍ ولا دين، إلا أن هذا مما يوجب الحزم الحوطة فيه؛ وإن ظفرت بنسيب لطاغيتهم المتملك عليهم أو خصيص به فاحمله إلى حضرة أمير المؤمنين، ليقربها رهينةً على من قبلهم من المأسورين، وسبيلاً إلى انتزاع ما يبذلونه في فدايته من المعاقل والحصون». وقد أمضى لك أمير المؤمنين أن تعقد الهدنة معهم إذا رغبوا فيها على الشرائط التي تعود بعلو كلمة الملة، وتجمع الخواطر والاستظهار للدولة؛ فعاقدهم محتاطاً، واشترط عليهم مشطاً، وتحرز في العقد مما يوجب تأولاً، ويدخل وهناً، ويطرق وهياً، وتحفظ بجوالي المعاهدين والأموال المقبوضة في فداء الغلات والغنائم وسبي المشركين حتى يحمل ذلك إلى بيت مال المسلمين، فينظر أمير المؤمنين في تفريقه على مستحقه، وإيصاله إلى مستوجبه، وافحص عن أحوال المستأمنين إليك تفحصاً يكشف ضمائرهم، ويبلو سرائرهم، وتحرز منهم تحرزاً يؤمنك مكايدهم وحيلهم، وخدائعهم وغيلهم، وإذا نازلت حصناً من حصون الكفار، فكن على يقظة من مخاتلهم في الليل والنهار، وانصب الحرس والأرصاد، واحذر الغرة ولا تهمل الاعتداد: لتعرف أعداء الله أن طرفك ساهد، وجنانك راصد، وتفقد أمر الجيش وأزح علة من ترقبه في الأطماع والمواكدات، ومطوعته في المعاون والجرايات، ولا تغفل عنهم غفلةً تضطرهم إلى الانفلال، وتدعوهم إلى الانفصال؛ وأحسن إلى من حسن في الكفاح أثره، وطاب في الإبلاء خبره، وعده عن أمير المؤمنين بالحباء الجزيل والعطاء والتنويل، فإن ذلك قادحٌ لعزائم الأولياء، باعثٌ لهم على التصميم في اللقاء؛ فإذا أنت- بمشيئة الله- شفيت الصدور، واحتذيت المأمور، وأعززت الدين، وذللت الملحدين، ودوخت البلاد، ونكست رؤوس أهل العناد، فانقلب بعساكر أمير المؤمنين، ومطوعة المسلمين، إلى حضرته واثقاً بجميل جزائه، وجليل حبائه، وطالع في موردك ومصدرك؛ بما يجدده الله لك ويفتحه على يدك، واذكر ما أشكل عليك ليمدك أمير المؤمنين بالتبصير والتوقيف، والتعليم والتعريف، واستعن بالله فهو خير معين، وتوكل على الله فإنه نعم الوكيل. لأولياء، باعثٌ لهم على التصميم في اللقاء؛ فإذا أنت- بمشيئة الله- شفيت الصدور، واحتذيت المأمور، وأعززت الدين، وذللت الملحدين، ودوخت البلاد، ونكست رؤوس أهل العناد، فانقلب بعساكر أمير المؤمنين، ومطوعة المسلمين، إلى حضرته واثقاً بجميل جزائه، وجليل حبائه، وطالع في موردك ومصدرك؛ بما يجدده الله لك ويفتحه على يدك، واذكر ما أشكل عليك ليمدك أمير المؤمنين بالتبصير والتوقيف، والتعليم والتعريف، واستعن بالله فهو خير معين، وتوكل على الله فإنه نعم الوكيل.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، فاعمل به وانته إليه يسدد الله مساعيك، ويصوب مراميك، إن شاء الله تعالى.
قلت: وأورد في خلال ذلك من تقاليد أرباب السيوف جملةً أسقط من صدرها التحميدات.
ما أورده في رسم تقليد الإمارة على قتال أهل البغي أن يقال بعد التحميد ما مثاله: وإن الله تعالى أوجب طاعة أولي الأمر على كافة المؤمنين، وأكد فرضها على جميع المسلمين، فقال جل قائلاً، {يا أيها الَّذِين آمَنُوا أطِيعُوا اللهَ وأطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولي الأمْرِ مِنكم}، علماً منه تعالى بأن الطاعة ملاك الأمر ونظامه، ومساك الجمهور وقوامه، وأنه لا تتم سياسةٌ مع الشقاق والانحراف. وأمر سبحانه باستتابة من ألقى العصمة من يده، ونبذ الطاعة وراء ظهره، بشافي المواعظ والتبصير، ونافع التنبيه والتذكير؛ فإن أقلع وتاب، ورجع وأناب، وإلا جوهد وقوتل، وقوبل بالردع حتى يقبل ويعتصم بالطاعة، وينتظم في سلك الجماعة، فقال تعالى: {وإنْ طائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقتَتَلُوا فَأصْلِحُوا بَيْنَهُما}، وقال: {فَقَاتِلُوا الَّتي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلى أمْر الله}. وإن الغلاة فارقوا اجتماع المسلمين، وانسلخوا من طاعة أمير المؤمنين، نابذين لبيعته، شائين بطل دعوته، وشقوا عصا الإسلام، واستخفوا محمل الحرام، واستوطئوا مركب السيئات والآثام، وعرجوا عن قويم السنن، وسموا بأراذل البدع أفاضل السنن، وسعوا في الأرض بالفساد، وجاهروا بالعصيان والعناد؛ وكاتبهم أمير المؤمنين مبصراً، ومعذراً منذراً ومخوفاً محذراً، ودعاهم إلى التي هي أصلح في الأولى والأخرى، وأربح في البدء والعقبى، وأعلمهم أن الله تعالى لا يقبل صلاتهم ولا صيامهم، ولا حجهم ولا زكاتهم؛ ولا يمضي قضاياهم ولا حكوماتهم، ولا عقودهم ومناكحاتهم، ما داموا على معصية إمامهم، ومفارقة ولي أمرهم، الذي أوجب عليهم طاعته، وفرض في أعناقهم تباعته، وتابع في ذلك مواصلاً، ووالاه مكاتباً ومراسلاً، فأصروا على العقوق، واستمروا على اطراح الحقوق، ودعوا إلى الأسوإ لها من إقدام الجيوش عليهم، ونقل العساكر إليهم، ومقابلتهم بما يقوم أودهم، ويصلح فاسدهم ويزع جاهلهم، ويوقظ غافلهم.
وإن أمير المؤمنين تخيرك للتقدم على الجيش الهاتف نحوهم: لما يعلمه من شهامتك وصرامتك، وسدادك وسياستك، وإخلاصك ووفائك، وكفايتك وغنائك؛ ويوصف بما تقتضيه منزلته، والأمر الذي هو أهل له، وهو يأمرك أن تقدم النفوذ إليهم مستنجحاً دعاء أمير المؤمنين، مستنزلاً لصروف الغالبين، مستشعراً لباس التقوى في الإعلان والنجوى، فإذا نازلتهم في عقر دارهم، فأذقهم بالمضايقة وبال أمرهم، واسلك بهم سبيل أمير المؤمنين وافتتحهم بالإرشاد، وحضهم على ما يقضي بصلاح الدنيا والمعاد؛ فإن استقاموا وتنصلوا وراجعوا ورجعوا فأعطهم الأمان، وأفض عليهم ظل الإحسان، وإن أصروا وتمردوا، وجاهدوا واعتدوا، فشمر لمنازلتهم، وصمم في مقاتلتهم، واثقاً بأن الله تعالى قد قضى بالنصر لأولياء أمير المؤمنين وأهل طاعته، والخذلان لأعدائه وأهل معصيته، إبانةً بذلك عن تأييده لمن اعتصم بحبله، ودفعه لمن انسلخ من ظله، وحجةً بالغةً لمن تمسك بطاعته، وموعظةً شافيةً لمن استخف بحمل معصيته؛ فإن ملكك الله تعالى البلاد، وطهرها من أهل الفساد، وشرد عنها الدعار والأشرار، إلى أقاصي الديار، فاجبب نواعق الفتنة والضلالة، وعف آثار ذوي الغي والجهالة، وأسبغ الأمن على أهل السلامة، وأفرغ العدل على من سلك سبيل الاستقامة، وأجر الأمر في الخطبة لأمير المؤمنين على الرسم المحدود، والمنهج المعهود، وطالعه بما انتهيت إليه، ليكاتبك بما تعتمد عليه.
ويضمن هذا العهد ما يقع فيه من شروط العهد المتقدم، ويؤمر أن لا يستصحب من الجند إلا من يثق بإخلاصه وصفائه، ويسكن إلى أمانته ووفائه، وأن يرفض المدخول النية، النغل الطوية، فإنه لا شيء أضر على المحاربة من لقاء عدو بجيشٍ مخامرين، وجند مماكرين؛ وقد يكون في العساكر من يداهن ويظهر الخدمة وهو في مثل العدو: إما لأن بينهما سالف وداد وولاية قد تأصلت بإطماع وإفساد، أو يكون لسلطانه قليل الإحماد. وهذا الذي أوردناه ليس بمثال جامع وإنما هو الذي يتميز به هذا العهد عما تقدمه، والكاتب إذا احتاج إلى استعماله رتبه وقدم م يجب تقديمه، وأخر ما يجب تأخيره وأضاف إليه ما تجب إضافته؛ إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة سجلٍ بولاية مصر، وهي: الحمد لله، الموفق إلى دواعي رضاه، المحسن العون على ما أوجب المزيد من إفضاله واقتضاه، المثيب على ما هدى إليه من طاعته، ألقابل عمل من استنفد في الشكر أقصى طاقته، المتكفل بمصالح عباده، المولي من مواهبه ما تعجز الخواطر والألسنة عن تعداده، وصلى الله على جدنا محمدٍ الذي جعل اتباعه سبيلاً إلى سكن جنات الخلود، وآلت بهداه نار الكفر إلى الهمود والخمود، وأنقذ من مهاوي الضلال، ووسم من حاده وحاد عن سبيله بالصغار والإذلال، وخلف في أمته الثقلين كتاب الله وعترته، وأبقى بهما فيهم آيته وهدايته، وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مبرم أسباب الشريعة ومحكمها، ومطلق سيوفه في نفوس أعداء الملة ومحكمها، وباب مدينة علم النبوة التي لا يدخل إليها إلا منه، وسيد من عناهم الله بقوله: {رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ورَضُوا عَنْه} وعلى آلهما الأئمة الهداة قوام الإسلام، وساسة الأنام، وخلفاء الله في أرضه، والموفين بعهده والآمرين بأداء سنته وفرضه، وركن العصمة الذي من لجأ إليه نجا، والحصن الذي ما خاب من أمه فرجا منه فرجاً، وسلم وعظم، ووالى وكرم.
وإن أمير المؤمنين- لما أودعه الله إياه من أسرار الحكمة، واجتباه له من إمامة الأمة، واختاره له من كلاءة الخليفة وإيالتها، وحفظ حوزتها من المخاوف ورعايتها، وما خصه به من بنوة النبوة والرسالة، وأفرد به رأيه من الجزالة والأصالة، واكتنف به أنحاءه من التوفيق الذي لا يصدف عن غرض الإصابة ولا يحيد، وعضده به من التأييد لعزائمه ببلوغ الغرض في نصرة التوحيد، واستودعه إياه من الإقبال الذي يجعل المستحيل لمراده إمكاناً، والتأييد الذي أوضح به لإمامته برهاناً، وتوحده به من العصمة التي تصي بها مراميه مواقع الرشاد، وتضمن الخيرة لما يعانيه من الأمور مما سد وساد- يعمل خواطره فيما يكفل للنفوس برضاها، ويجزل للدين والدنيا به حظاها، وتتظاهر به ضروب الصلاح على الأمة، وتحيا به سنن الخيرات وتتم النعمة، وينظر لمن استودعه الله إياهم من بريته نظر المؤدي الأمانة إلى مؤتمنه، المستودع فيما يتقرب به إليه من البر شكر سوابغ منائحه ومننه، ويقرب على الأمة منال الخير باصطفائه من يكون لأفاضل الشيم مستكملاً، وإلى ما أزلفه إلى الله سبحانه من طاعة أمير المؤمنين متوصلاً، ولشواذ الثناء بفاضل سيرته متحلياً، وللتسمح في قوانين السياسة مجتنباً؛ ولما علم رغبة الرعية فيه منتصباً، وفيما بلغهم أقصى الآمال متسبباً، وبمراقبة الله فيما يأتي ويذر متديناً، وبحسن الجزاء على العمل بمرضاته متيقناً: ليكون أمير المؤمنين قد قضى ما أوجبه عليه مستخلفه باجتبائه واصطفائه، واستحمد إليه بإسناد جلائل الخدم إليه واستكفائه، وأتى ما تكون السلامة مضمونةً في مباديه وعواقبه، وأحظى نبيل المراد في جميع جهاته وجوانبه، مستديماً نعم الله التي أسداها إليه وأولاها، مواصلاً حمده على مننه التي ظاهرها عليه ووالاها، ويستعينه على لوازم عوارفه التي من أجلها خطراً، وأحمدها في البرية أثراً، وأجمعها لمنافع الخاص والعام، وأعودها بحماية حوزة الإسلام، وأشهدها ببراهين الأئمة، وأدلها على عناية الله بهذه الأمة، ما منحه أمير المؤمنين من موازرة فتاه ووزيره، ومعينه على المصالح وظهيره، السيد الأجل العادل أمير الجيوش أبي الحسن عليٍ الظافري، - والدعاء- الذي أظهر الله به لأمير المؤمنين آيات حقوقه، واستأصل ببأسه شأفة من تتابع في مروقه وبالغ في عقوقه، وكسا الدهر بإيالته ملابس الجمال، وفسح بفاضل سيرته مجال الآمال، وبذل من الجهاد غاية الاجتهاد، ووالى من عمارة البلاد ما أنطق بحمده الجماد، واستخلص نخائل الصدور بلطف سياسته ووسع عدله، ورغبت غرائب الآمال في الإيواء إلى سابغ فضله، وتبارت الليالي والأيام في خدمة أغراضه في أعاديه، واسترق قلوب الأولياء بما يواليه من بيض أياديه، ووضع الأشياء في مواضعها غير محابٍ ولا مرخص، ولم يحض بأيامه النيرة غير الطائع المخلص، ولم ينفق للباطل سوق، وأتت سيرته بما يرضي الخالق والمخلوق؛ فالله تعالى يجعل مدته غير متناهيةٍ إلى مدى، والنصر والتوفيق لآرائه مدداً، ويخلد أبداً سعده، وينجز لأمير المؤمنين على يده وعده.
ولما كانت منزلته عند أمير المؤمنين المنزلة التي تتطامن دونها المنازل والرتب، وجلت أن ينالها أحدٌ ممن بعد أو قرب، وأفعاله قدوةً يهتدى بأمثالها في الشكوك، وسيرته قد عظمت عن أن تتعاطى مماثلتها همم الملوك، ومحله عنده من الكمال بحيث تستحكم الثقة باختياره، ويرجع في عقد الأمور وحلها إلى اتباع آثاره وموافقة إيثاره، وكانت مراتب الأولياء عند أمير المؤمنين بحسب مراتبهم من قربه، وموضعهم من رضاه مضاهياً لموضعهم من قلبه، ومكانهم من الحظوة لديه مناسباً لمكانهم من الزلفة عنده، وأحقهم بسناء الرتب من أقبسه زنده وكساه مجده، ولا سيما من لم يخرج منه عن حكم الولد، وحل منه محل القلب من الكبد، ونشأ في دوحته غصناً نضيراً، وطلع في سماء جلاله قمراً منيراً، واعتلى بجده، وقطع بحده، وتظاهره شواهد سعده في مهده؛ وكنت أيها الأمير الحاوي لهذا الفضل المبين، المعتلق من ولاء أمير المؤمنين بالحبل المتين، الذي نشأ متوقلاً في درج المعالي، وغدا متقيلاً في ظلال الصوارم والعوالي، وأخذت بمراشد السيد الأجل العادل فزدت عن الظنون وأوفيت، ووعدت عنك فصدقت ضمانها ووفيت، وما زلت بعين الإجلال والتعظيم ملموحاً، وبأفضل خلال الرؤساء ممنوحاً، ولجلائل المراتب مؤهلاً، وبلسان الإجماع مفضلاً، ولم أعيا من أدواء النفاق حاسماً، وفي مواقف المخاوف رابط الجأش حازماً، ولما يعد الأماجد له مذخور المضاء، وفيما تعانيه وتلابسه موفق الآراء؛ وقد اكتنفك من اتباعك هدي السيد الأجل العادل- أدام الله قدرته وولاءه- ناصر الدين، الأجل المظفر المقدم الأمين، سيف الإمام، ركن الإسلام، شرف الأنام، فخر الملوك، مقدم الجيوش، ذي الفضائل، خليل أمير المؤمنين، أبي الفضائل عباس الظافري العادلي، أدام الله به الإمتاع، وعضده وأحسن عنه الدفاع، الذي هو فخر الملوك ونجلهم، وأثراهم من المفاخر وأجلهم، وأقدمهم في الرياسة قدماً وأعرقهم، وأطيبهم أرج ثناءٍ وأعبقهم- ما جعلك أعلى الأعيان مفخراً، وأكرم الجواهر عنصراً، وأولاهم بآلاء أمير المؤمنين وعطائه، وأسبقهم في مضمار اختياره واجتبائه، وأثبتهم عنده مكانة، وأحراهم في خدمه بتأدية الأمانة؛ وقد عرف من مواقفك المشهودة، ومقاماتك المحمودة، ما كان منك في نوبة ابن مصال وجموع ضلاله، وما استفاض من كونك سبب انهزامه وانفلاله، وانقلاب تدبيره عليه وانعكاسه، والتفريق بين جسده وراسه، وحصل لك بذلك من إحماد أمير المؤمنين ما لا يبلغ الوصف مداه، إذ كان قد جرد سيف نصر والدك الأجل المظفر وأنت حداه، رأى أمير المؤمنين- وبالله توفيقه- أن لا يضيع ما فيك من جوهرٍ مكنون، ولا يرجع في أمر نباهتك إلى ما تدل عليه السنون؛ إذ كنت للكمال مع فتاء السن حائزاً، وبمزية اصطناع أمير المؤمنين واختياره إياك فائزاً؛ وفاوض السيد الأجل العادل- أدام الله قدرته- في تشريفك بولايةٍ يكشف بها شفوف جوهرك، ويوضح لكافة البرية بماشرتك إياها ما استقر عنده من جميل مختبرك، ووقع التعيين على تقليدك ولاية مصر وما مع ذلك من الصناعتين وغيرهما من حقوقهما، فأمضى أمير المؤمنين ذلك لما لهذه الولاية من الحظوة بالقرب والدنو، وليوفر على الإيثار على أن يبلغ نظرك إلى غايات العلو والسمو، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك الخدمة المذكورة: علماً بانتظام شؤونها بإيالتك، وحياطة حوزتها بسطاك ومهابتك، وتحققاً أن بسياستك تعمها المصالح، وتتظاهر عليها الميامن والمناجح، وتظهر لها الحجة في الافتخار، على سائر الأمصار، وتستأنف بمقارنتك من الميزة ما لم تحظ به فيما سلف من الأعصار، ويتضح بك البرهان لمن بالغ في تفضيلها، وتنال من فائض العدل بسيرتك ما تكاد تغنى به عن نيلها؛ فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من ذلك: معتمداً على تقوى الله الذي إليه تصير الأمور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ قال الله تعالى في محكم كتابه المبين: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقين}، واجعل من تحويه هذه المدينة بالعدل مشمولين، وعلى أجمل السيرة والرسوم محمولين، وساو في الحكم بين الشريف والدني، وآس في المقدار بين الملي والذمي، وأقم الحدود على من جب عليه بمقتضى الكتاب وصحيح الآثار، ولا تتعدها بإقلالٍ ولا إكثار. وفي هذه المدينة من ذوي الأنساب، وأعيان الأجناد ومتميزي الكتاب، وأماثل الشهود: فاعتمد تمييزهم والاحتفاء بهم، ومعونتهم على مطالبهم ومحابهم، وكذلك من تضمنت هذه الولاية من التجار والرعية، وتوخهم بما يسكن جاشهم، ويزيل استيحاشهم، ويفسح لهم في الرجاء والأمل، ويعينهم على صالح العمل؛ وتقدم بحفظ الجامع العتيق وصونه وتوفيره، على ما يليق به وتوقيره، وامنع من ابتذاله في غير ما جعل له، ونصب له، من الإعلان بذكره فيه وأهله، ووفر تام العناية، وشامل الرعاية، على من به من الفقهاء والعلماء والمتصدرين والقراء، وحضهم بالتكرمة على المبالغة في طلب العلوم، والتزود من صالح الأعمال ليوم الوقت المعلوم، وخذ جميع المستخدمين معك بلزوم الطرائق الحميدة، والمقاصد المستوفقة السديدة؛ فمن استمر على ما ترضاه من اجتهاده، وتستوفقه من صواب اعتماده، أجريته على رسمه في الرعاية، وتوخيته بالصون والحماية، ومن كان بالخدم مخلاً، وسلوكه عما يلزمه ضالاً مضلاً، فأوعز بتأديبه، وما يقضي بتقويمه وتهذيبه؛ والثقة بوفور حظك من الصواب، وإجرائك على ما يناط بك على الاستتباب، أغنى عن الإطالة لك في الوصايا والإسهاب؛ والله تعالى يقرن الخير بما تنظر فيه، ويجعل التوفيق مضموناً فيما تذره وتأتيه، وينيلك من رتب السعادة ما أنت له أهل، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى. جناد ومتميزي الكتاب، وأماثل الشهود: فاعتمد تمييزهم والاحتفاء بهم، ومعونتهم على مطالبهم ومحابهم، وكذلك من تضمنت هذه الولاية من التجار والرعية، وتوخهم بما يسكن جاشهم، ويزيل استيحاشهم، ويفسح لهم في الرجاء والأمل، ويعينهم على صالح العمل؛ وتقدم بحفظ الجامع العتيق وصونه وتوفيره، على ما يليق به وتوقيره، وامنع من ابتذاله في غير ما جعل له، ونصب له، من الإعلان بذكره فيه وأهله، ووفر تام العناية، وشامل الرعاية، على من به من الفقهاء والعلماء والمتصدرين والقراء، وحضهم بالتكرمة على المبالغة في طلب العلوم، والتزود من صالح الأعمال ليوم الوقت المعلوم، وخذ جميع المستخدمين معك بلزوم الطرائق الحميدة، والمقاصد المستوفقة السديدة؛ فمن استمر على ما ترضاه من اجتهاده، وتستوفقه من صواب اعتماده، أجريته على رسمه في الرعاية، وتوخيته بالصون والحماية، ومن كان بالخدم مخلاً، وسلوكه عما يلزمه ضالاً مضلاً، فأوعز بتأديبه، وما يقضي بتقويمه وتهذيبه؛ والثقة بوفور حظك من الصواب، وإجرائك على ما يناط بك على الاستتباب، أغنى عن الإطالة لك في الوصايا والإسهاب؛ والله تعالى يقرن الخير بما تنظر فيه، ويجعل التوفيق مضموناً فيما تذره وتأتيه، وينيلك من رتب السعادة ما أنت له أهل، ويتم نعمته عليك كما أتمها على أبويك من قبل؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن السجلات بالوظائف الدينية على هذه الطريقة ما كتب به القاضي الفاضل عن العاضد بولاية بعض القضاة، وهو:
الحمد لله الواسعة عطاياه، الوازعة قضاياه، المشتملة على أقسام الخلق قسمه، المبرور في سؤالهم يوم فصل القضاء قسمه، المسطور في كتابه الذي ما فرط فيه من شيء محلل الشرع ومحرمه، المتمثل فيه لمن مثله مطاع الأمر ومسلمه، الكريم الذي لا يضيع ثواب العاملين، ولا يقطع أسباب الآملين، ولا يمنع طلاب السائلين، العدل الذي قامت حجته على الناكبين والعادلين، والحق الذي يقضي بالحق وهو خير الفاصلين، مصفي مشارع الشريعة من أعراض الكدر، وحامي معاقل الملة من انتقاض المدر، ومنزه أوليائه من محاسنها في رياض الفكر، ومعرفهم بما عرض عليهم من إنافتها لارتياض النظر، وارتكاض الفطن والفطر، جاعل الحكم سلطانه الذي يأوي اللهيف إلى ظله، وحماه الذي يلجأ الضعيف إلى عدله، ومفزع الرائع الذي يقف المشروف والشريف عند فصله، وشفاء العلل الذي يذهب بكل ما في صدر من علة، ومشرع الإنصاف الذي يفضي إلى الظمإ فيض سجله، وموعد الخلائق يوم تطوى السماء كطي سجله، ومظهره ليظهر به هذا الدين على الدين كله، والآمر فيما أشكل منه بالتعريج إلى مستنبطه من أهله، وجاعل الأئمة الهادين الحجج على من رجع إلى قياس عقله أو تقليد جهله، وأحد الثقلين الذي يخفف عن كل غارب كل ثقله، وأخوه الكتاب فلن يفترقا حتى يردا الحوض يوم نهله وعله، وصراطه المستقيم الذي من أتى اليوم فيها بزلة رأيه أتى غداً بزلة فعله، ومنار الأنوار المضروب على طرق الساري في ليل الضلال وسبله، وسبب العصمة التي أشار فيها إلى الاعتصام بحبله؛ وصلى الله على جدنا محمد الذي عظم به جدنا، واعتلق بسببه مجدنا، ووجب به على كل من واد الله ورسوله ودنا، وأورثنا من علمه ما حاز لنا شرفي الدين والدنا، وحلم به نجير من ضاقت به المذاهب فرجا فرجاً، وحكمه المشركون فيما شجر بينهم فلم يجدوا في أنفسهم بما قضى حرجاً، وعلى أخيه وابن عمه، القائم مقامه بفصل حكمه وفضل علمه، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي حرز له من المكرمات لبابها، وطابت بغبار حلمه إقامة الألباب وإلبابها، وميزه على الكافة بقوله: أنا مدينة العلم وعليٌ بابها وشهد طوراً بأنه أفتاهم فعلم أنه أقربهم به شبهاً وفي مدى الفضل أقصاهم، وعلى الأئمة من ذريتهما الذين أنعموا فأجزلوا، وحكموا فعدلوا، وحملوا ثقل الأمانة فحملوا، وجاهدوا في سبيل الله فعلوا بما فعلوا، واستوجبوا الحمد بما أولوا والأجر بما ولوا، صلاةً مأمونةً من الشبهات، متوضحة الشيات.
ولما كان حكم الصواب في الحكم بين الناس أن يختار من بان صوابه واتضح، وبان عنه حكم الهوى الذي فضح، وأصغى ضميره إلى لسان الحق الذي فصح، وعرض جوهره على محك النقد فصح، وميز بينه وبين الرجال فثقل وزناً ورجح، واحتج به الإسلام على من نوى مناواته فنجح، وولي الأحكام بين المسلمين فأصلح وصلح، وتسمح إذا كان الحق له وإذا ما كان فيه فما أسمح ولا سمح، وجدد جده من معالم العلوم ما صح رسمه وأمح، وأطلعته على خفايا المشكلات بديهة فكره لما لمح، وملك عنان هواه رأيه فجنح إلى هواه وما جمح، وشرح صدر الاختيار بما ملأ الأخيار من محاسنه وشرح، وتعالى الاقتراح لهذه المرتبة فكان وفق ما أراد وفوق ما اقترح، وتشبث بعين الأعمال الصالحة وتمسك، وتنزه عن داءٍ يلازمها وأعراضٍ تشينها وتنسك، وكثر الخوض في الباطل فإما صدع بالحق وإما أمسك، وأعدى فصله وفضله على من شكا أو شك، وغض عينيه عما أعطي سواه ومتع به، واشترى طول راحته بنصيبه الآن من نصبه، وحسره النعمة من تعبه، وأيس الظالم من ممالاته ومبالاته، وطمع المظلوم بقرب إعاناته وبعد إعناته، ومر مر الدهر وحلا حلوه فلم يشهد باستمالاته عن حالاته، ولم يرض أحد به حكم صرف دهر يجري بأذاته، ولا كشفت منه التجارب إلا عن البصائر التي تروق السماع والنظار، والحسنات التي قضت بصائرها بقضاء مناظرة الأنظار، والديانة التي عمرت المحاريب في الليل وأطراف النهار، والأمانة التي استمسك عقدها فما خيف عليه أن يتداعى ولا أن ينهار، والصيانة التي استوى فوق مركبها فحلت بجنات عدن تجري من تحتها الأنهار.
ولما كنت أيها القاضي ملتقى هذه الأوصاف وطيعها، ومشرق نحرها ومطلعها، وملقى عصا ارتيادها ومنجعها، ومورد فرط تلك الأموال ومشرعها، ومراد هذه السمات التي تقع منك موقعها، وتألف عندك موضعها، واصل هذه المحامد التي إن استعلقت بسواه فمنه فرعها، وقارع صفاة هذه الذروة التي ما كان لغيره أن يقرعها، ومن تعده الخناصر أتقى كفاة الرتب وأورعها، وأبلج أباة الريب وأردعها، وأشدها قياماً ومقاماً في ذات الله وإن كان له أطوعها، وأمضاها حداً إذا كف الباطل الغروب، وأشرقها شمساً لا تتوارى بحجاب الغروب، وأقواها سلةً في تنفيذ حكمٍ حقٍ إذا ضعف الطالب والمطلوب، وأنقاها صحيفةً بما أودعها من نور العمل المكتوب، وأبداها زهداً في دنياه إذا أنموا بوعدها الكاذب أمل إيتائها المكذوب، وأدومها مصاحبةً لشكر لا يستقل به رفيقها المصحوب، وأقومها طريقةً في الحسنات فما طريقه إلى الحوب بملحوب، وأقواها طمأنينة قلب إلى ذكر الذي تطمئن به القلوب، وأنهضها عزماً بما أعيا الهمم من تكاليف الطاعة وآد بسمع وبصر وفؤاد، وأقدرها على مجاهدة الشهوات أشد الجهاد وأنظرها لنفسه في تحصيل عمل يشهد له يوم قياد الأشهاد، وأمهدها لجنبه وذخائر التقوى نعم المهاد.
وإلى اليقين الذي ظهرت شواهده، والعمل الذي جمعت إليك شوارده، والدين الذي صفت إليك موارده، والعلم الذي هبت بمذاكرتك رواكده، والفهم الذي تظاهرت بمناظرتك مراشده، والنظر الذي ألقى فرسان الجدال بالجدالة، والأثر الذي يقضى به عليك بالعدالة، والمحاماة عن الحق بما يقضي لمخالفه بالإذالة ولمواليه بالإدالة، والإرشاد الذي ما بدا لفهم الشاك إلا بدا له، والفتيا التي ضربت ثبج الباطل بسيوفها، وحلت مسامع المستفيدين بشنوفها، والجلالة التي لا يمل مسموع أوصافها، والعدالة التي لا يمل مشروع إنصافها؛ وكم ليلةٍ أغمدت ظلامها في نور التهجد والناس هجود، وسكنت جفون مناقبها بيقظات السجود، وأنشأت الخشية غمامها فاطفأت بماء الدمع النار ذات الوقود، وبلغت رياضة الجوارح التي تريد ورياض القلب التي ترود، فأسفر الصبح منك عن سارٍ واقف، واستسر لك القبول عن أنس خائف، وتأرجت أنفاس الأسحار باستغفارك، وتم عنوان السجود بأسرارك، وابيضت شية الليل بحلى آثارك، واكتنفتك الطهارة حتى كأنك مصحف، وأرهفتك الديانة حتى كأنك مرهف، وحالفتك الركانة وكأنك مع سلامة الخلق أحنف، وثقفتك السن فأبقت منك ما أبقت من سنان المثقف، وعرفتك الأحكام بأنك ماضٍ على الحقائق عند الشبه تتوقف، وألفتك النزاهة فشهد عدولٌ أن نكرة المطامع عندك لا تتعرف، وصرفتك النزاهة عن دنيا إن كانت عرائسها تزف فغداً مواردها تنزف، واستشرفتك المنازل التي لا تزال باعناق الأشراف تستشرف؛ وما رأست، حتى درست، ولا تنبهت، حتى تفقهت، ولا أقنيت حتى أفنيت المحابر، ولا تصدرت حتى تصبرت على كلفٍ تغلب الصابر؛ فما حاباك من حباك، ولا قدمك حتى علم أن سواك ما ساواك؛ فرياستك لم تكن فلتة، واستشراف وجه الرياسة لك لم يكن لفتة، بل تنقلت متدرجاً، وأثنى عليك لسان حقيقة ما كان متلجلجاً؛ ولو أقعدك حسبك أو أباك، لقبلك المجد وما أباك؛ فكيف ولك نفس بنت لك الشرف الخالد، وجمعت الطريف منه إلى التالد، ولم تقنع بما ورثت من تراث رياسة الوالد.
والسيد الأجل الذي أعاد إلى الدولة رونق نضارتها، بعد رونق إضارتها، وأفاضت عليه حيا إشارتها، وأضافت إليه نص إشارتها، واعطته السعادة أفضل إمارتها، بما أعطته من فضل وزارتها، واشتملت معاني النجاح من صفحة بشره التي عجلناك الآمال ببشارتها، وأقرت حركاته الخلافة في دارها والأنوار في دارتها، وقصرت مهابته أيدي الأعداء بعد استطالتها، وأخمدت نارهم بعد استطارتها، وذللت رياضته الأسود فلم ترع الأسماع بزأرها ولا العيون بزيارتها- يعدك للصدور صدراً، ويعدك بما يرفع ذوي الأقدار قدراً، ويذكرك بما تطيب به نشراً، ويحسن ملبوسه بشراً، ويراك أولى من أقام الحق لازماً جواده، وأقعد الباطل حاسماً مواده، ويصفك بالعدل الذي يتألم عليه الأضداد، والسداد الذي لا يضرب بينك وبينه بالأسداد، والنزاهة المنزهة عن التصنع بالرياء، والسريرة الطيبة النشر والسيرة الحسنة الرواء.
ولما قرر لك النيابة عنه في الصلاة والخطابة والقضاء والمظالم والإشراف على الجوامع والمساجد ودار ضرب العين والورق والسكة بالحضرة وسائر أعمال المملكة، أمضى أمير المؤمنين ما قرر، وتخير لهذه العطية من تخير، سكوناً إلى أمانتك التي حملت نوقها، وركوناً إلى ديانتك التي أوجبت تطلع هذه الرتبة إليك وسوقها، وعلماً أنك فارسها الذي اتسع ميدانه، وواحدها الذي رجح ميزانه، وكفؤها الذي تمكن مكانه؛ فتقلد ما قلدت من ذلك عاملاً بتقوى الله التي يفوز العامل بها في مواقف الإسخاط، ويجوز بها السالك متالف الصراط، ويحوز بها الآمل معارف الاحتياط؛ قال الله في فرقانه الذي نزله على عبده ليكون للعالمين نذيراً: {يا أيها الذِين آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وآمِنُوا برسُولِهِ يُؤْتكُمْ كِفْلَيْنِ من رَحْمتِه ويَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً}.
والحكم فهو عقد اللباس دنياً وديناً، وسبيل الحق الذي يسلكه من جرى شمالاً وسلك يميناً، وبه كف الله الأيدي المتعدية، وأنقذ من النار النفوس المتردية، وأقام حدود كل من استحقها ولم يتوقها، وأوجب قصاص الدماء على من أراقها واستباح رقها، وبه يقف القوي والضعيف موقفاً واحداً، ويظهر أولو عدل الله لمن كان بعين قلبه مشاهداً، وبه تتبين مواقع التحليل والتحريم، وفيه تتعين مقاطع الحكم بالتحكيم، ولمجالسه الوقار فهي جنةٌ لا لغو فيها ولا تأثيم، والظالم فيه وإن ظفر فإنما ظفر بما يقطع له من نار الجحيم. ولا تجعل بين المتحاكمين إليك من فرق، وساو في الحكم بين كافة الخلق، ولا تحكم بحجة أحد الخصمين وإن كان لها السبق: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أنْزلَ اللهُ ولا تَتَّبعْ أهْواءَهُمْ عمَّا جَاءَكَ من الْحَقّ}، ولا تقطع بعلمك وإن كنت عليماً، ولا تبال في الله أن تغضب ظالماً وترضي مظلوماً، واجعل لنفسك من نظرك وإصغائك بين المترافعين إليك مقسوماً، فلا تحقر خطأ الحكم وتجنب منه بينهما ما تجده عند الله عظيماً، واحكم بينهم بما أنزل الله ولا تكن للخائنين خصيماً وتجلبب بالوقار الذي يبين فضل الملة، ويشهد للكفر بالذلة، ويلبسك فخر السراة الجلة، ولا يمنعك مذموم التكبر، عن محمود التدبر، ولا جبر لكسر التجبر، ولا خير فيمن لا يمهل روية التحير، فالعجلة تضيق ميدان التخير؛ وإذا أوضح الملتبس لفهمك، وعز القطع بفصل حكمك، فأفهم الظالم ما توجه عليه لخصمه، فربما أوتي من سوء فهمه لا من طريق ظلمه، ولعله لا يجمع عليه بين فوت مراده وبقاء إثمه، وذاكر المقدمين على اليمني، بما على من يمين، وأن كاذبها يدع الديار بلاقع، وأن خرق الجرأة على الله ما له من راقع، وصرعة الفاجر ما لها من مزيل ولا رافع؛ ومن قطعه الحصر عن الإفصاح، وصرفه العي عن الإيضاح، فاستعمل معه أناةً توضح ما يختلج في صدره، ورفقاً يفصح ما يختلج في فكره، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّكم لتَخْتَصمُون إليّ ولعَلَّ أحَدَكم أن يكونَ ألْحَن بحجَّته من الآخر فأقضي له على نحو ما أسمع» ولدخول المجالس دهشة تورث اللسان عقلة، ولمفاجأة المحافل حيرة تعقب البيان مهلة، فواجب عليك ممن تدله أن تدله، وممن يشده أن تشده: لتقضي بما تقضي، وتمضي الحكم بحقيقة تمضي؛ وإن تنجزت قضية قد فرطت، وتدبرت نوبةً قد أفرطت، فبادر باستدراكها، قبل وقوعك في أدراكها، وتعذرك عن إدراكها؛ ولست معصوماً من المغالط، ولا موصوماً بالخطإ الفارط، ولا ملوماً إلا إذا أقمت على ما الله منه ساخط، فقد ذم الله من اتقى الخلائق ولم يتق الخلاق، فقال تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ ولا يَسْتَخْفُونَ من اللهِ مَعَهُمْ}.
وكتاب الله وسنة رسوله السراجان اللذان ما ضل هداهما، والمهادان اللذان ما أوضحهما إليه وأبداهما؛ وقد أغنت نصوصهما عن الأقيسة، وأوضح خصوصهما عامة الأمور الملتبسة؛ قال الله سبحانه: {ما فَرَّطْنَا في الكتاب مِنْ شَيْ}، وقال تعالى: {وَمَا آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوه ومَا نَهَاكُمْ عَنْه فانْتَهُوا} وإن أشكلت نازلةٌ غير مسطورة وأعضلت واقعةٌ غير محصورة، فاسترشد أمير المؤمنين في أمرها، وقف على بحار علمه فلن تعدم سيح درها، فأمير المؤمنين الذي أمر الله عند التنازع بأن نرد إليه ما أعضل، وأثم أخذك للاستنباط إلا من الذين حكم الله أن يرد عليهم ما أشكل.
والشهادة فلقد أمر الله بإقامتها وكفى بالله شهيداً؛ وكفى بذلك جلالة وتمجيداً؛ ولا تتخذ إلا العدول المقانع، ولا تسمع منهم إلا لمن هو لأمر الله سامع، فهم الأعوان التي تدفع بها نار جهنم، والجنن التي يتقي بها الحاكم سهام الآثام فيما حلل وحرم، وإلى علمهم انتهت مقاطع الحقوق التي الله بها أعلم؛ وما سرى حكمٌ إلا بعد أن تجد أقواله دليلاً، ولك السمع ولهم البصر وكل أولئك كان عنه مسؤولاً؛ واستشف أمورهم فمن ألفيته آلفاً لمحجة الصواب، عائفاً لمضلة الارتياب، لا يحاف بالإغضاب، ولا يخاف بالإرهاب، ولا يحسب حساباً إلا ليوم الحساب، فاسمع مقالته، وأقر عدالته، ومن كان عن السبيل ناكباً، وللهوى راكباً، فأرجله عن ظهر العدالة، وتتبع زلله بالإزالة، وواصل فيهم ألسنة حكمك، وأوجه علمك، فلا تستنب إلا من تعلم أن خطأه عليك وصوابه لك، ولا تعول إلا على من لا يخجل نفسك ولا يذم تعويلك.
وكاتبك فقلمه لسانك، ولسانه ترجمانك، إن وقع فإليك تنسب مواقع توقيعه، وإن وصل حكماً بمسطوره فمقدارك مسطورٌ من مسموعه؛ فلا ترض بالدون فيما يدون، ولا تعول إلا على كل من تصور وتصون.
وحاجبك فهو عينك وإن سمي حاجباً، ووجهك الذي تلقى به إذا كنت غائباً؛ فاختر من يكون متخيراً في المقال، متحلياً بحسن الفعال، مجرباً في جميع الأحوال، لا يلتفت إلى دنيا دينه، ولا يخونك أمانته ولا تمتد يمينه ولا يقول عنك ولا عن نفسه إلا ما يزينك ويزينه، ولا يخف إلى ما تخف به موازينه.
والخطباء فرسان المنابر، وألسنة المحاضر، وتراجم الشعائر، وأئمة المجامع، وسفراء القلوب بوساطة المسامع لمقامها الرافع، ومبرها الفارع من القلوب على دائها، وتدحر حربه شياطين الأمم عند اعتدائها، ويعرب عن الهداية ويبالغ بلاغته في إهدائها، ويتقن مخارج الحروف محسناً في أدائها وإبدائها، وتحل موعظته عن العيون الجامدة عقد وكائها، وينادي القلوب الصدية فيكون صداه صوب بكائها، ويستشعر أردية الوقار فتشهد المنابر له بارتدائها، وتغذي النفوس مواعظه إذا قصدته باستنصارها على القلوب واستعدائها.
والأيتام فأنت لهم والد، وأجر نفقتك عليهم في الصحيفة وارد، وهم ودائع الله لديك، وذخائر الآباء إلا أنهم في يديك؛ فأحسن بهم السياسة بالشفقة، وأحسن لهم التدبير بالنفقة؛ ومن آنست رشده، فادفع ماله إليه، ومن لم تسترشد قصده، فأنفق منه عليه؛ قال الله تنبيهاً وتحذيراً: {وَلاَ تَأْكُلُوا أمْوالَهُمْ إلى أمْوالِكُمْ إنَّه كَانَ حُوباً كَبِيراً}.
والمساجد بيوت الله التي يسبح له فيها بالغدو والآصال، ومظان العبادة التي يعمرها أهل الاعتلاق بمعروفه والإفضال، ومصاعد الكلم الطيب والعمل الصالح، وأسواق الآخرة التي يوجب فيها المشترون صفقة البيع الرابح، فعبد الطريق إلى زيارتها، واشرح قلوب المتطهرين بطهارتها، وانس القائمين بالليل والمستغفرين بالأسحار بإنارتها.
والمضروب بدار الضرب فهو عين ما تجب عليه الزكوات، ونفس ما تحاز به المستملكات، ومدار ما تشتمل عليه المعاملات، وقيم ما تحقن به الدماء في الديات، ومنتهى ما توفى به الصدقات، وتوصي به الصدقات؛ فتول أخذ عياره، ومباشرة تصفية درهمه وديناره، وأخلصه لتنجو من النار بلفحات ناره، واحفظ شكله الذي ينقش خاتم جوازه؛ والأسماء المسطرة عليه وسيلة امتيازه على بقية الأحجار وإعزازه.
والوكالة على باب الحكم فهي كفاح المتناضلين، وسلاح المتناصلين؛ ومن ينتفع بها لا يعزل من الخطاب، كما لا ينصب بها من يفتح له الباطل الأبواب؛ فلا توعها إلا لمن حسمته الدربة في السرعة من القربة، وتدبر قول الله: {وإنْ كانَ مِثْقَالَ حَبَّة} ممن يؤمن على النساء والرجال، ولا يعجبه إرسال لسانه في الحلال، ولا يبطل الحق إذا أطلق لسانه في سعة المجال.
والمتصرفون الذين هم أيدي الشريعة التي تشخص الخصوم، ويستعان بهم على قمع الظلوم ونفع المظلوم، فتخير أن يكون أكبرهم من أهل طبقته، وأمدهم تحسيناً لسمعته وتحصيناً لأمانته.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فاهتد بهديه، وقم بفرض رعيه وحق وعيه، وكريم سعي الآخرة أحسن سعيه، وتصرف بين أمر الحق ونهيه؛ والله سبحانه يبلغك من مناجح أمرك، ما لا تبلغه بمطامح فكرك، وييسر لك من بديهة الإرشاد، ما تعجز عنه روية الارتياد؛ فاعلم هذا من أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك ما أورده علي بن خلف الكاتب في كتابه مواد البيان في سجلٍ بالدعوة للدولة والمشايعة لها، والموافقة على مذهبها، وهو: الحمد لله خالق ما وقع تحت القياس والحواس، والمتعالي عن أن تدركه البصائر بالاستدلال والأبصار بالإيناس، الذي اختار الإسلام فأظهره وعظمه، واستخلص الإيمان فأعزه وأكرمه، وأوجب بهما الحجة على الخلائق، وهداهم بأنوارهما إلى أقصد الطرائق، وحاطهما بأوليائه الراشدين شموس الحقائق، الذين نصبهم في أرضه أعلاماً، وجعلهم بين عباده حكاماً، فقال تعالى: {وجَعَلْنَاهُمْ أئِمَّةً يَهْدُونَ بأمْرِنَا وأوْحَيْنا إلَيهِمْ فِعْلَ الخَيْرات وإقامَ الصَّلاةِ وإيتَاءَ الزَّكاةِ وكانُوا لَنَا عابِدِينَ}.
يحمده أمير المؤمنين أن أصطفاه لخلافته، وخصه بلطائف حكمته، وأقامه دليلاً على مناهج هدايته، وداعياً إلى سبيل رحمته، ويسأله الصلاة على سيدنا محمدٍ نبيه ابتعثه رحمةً للعالمين، فأوضح معالم الدين، وشرع ظواهره للمسلمين، وأودع بواطنه لوصيه سيد الوصيين: علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وفوض إليه هداية المستجيبين، والتأليف بين قلوب المؤمنين، ففجر ينابيع الرشاد، وغور ضلالات الإلحاد، وقاتل على التأويل كما قاتل على الرسل، حتى أنار وأوضح السبل، وحسر نقاب البيان، وأطلع شمس البرهان، صلى الله عليهما، وعلى الأئمة من ذريتهما، مصابيح الأديان، وأعلام الإيمان، وخلفاء الرحمن، وسلم عليهم ما تعاقب الملوان، وترادف الجديدان.
وإن أمير المؤمنين- بما منحه الله تعالى من شرف الحكمة، وأورثه من منصب الإمامة والأئمة، وفوض إليه من التوقيف على حدود الدين، وتبصير من أعتصم بحبله من المؤمنين، وتنوير بصائر من استمسك بعروته من المستجيبين- يعلم بإقامة الدعوة الهادية بين أوليائه، وسبوغ ظلها على أشياعه وخلصائه، وتغذية أفهامهم بلبانها، وإرهاف عقولهم ببيانها، وتهذيب أفكارهم بلطائفها، وإنقاذهم من حيرة الشكوك بمعارفها، وتوقيفهم من علومها على ما يلحب لهم سبل الرضوان، ويفضي بهم إلى روح الجنان وريح الحنان، والخلود السرمدي في جوار الجواد المنان- ما يزال نظره مصروفاً إلى نوطها بناشئٍ في حجرها، مغتذٍ بدرها سارٍ في نورها: عالمٍ بسرائرها المدفونة، وغوامضها المكنونة، موفراً على ذلك اختياره، وقاصية انتقاده واختباره، حتى أداه الاجتهاد إليك، ووقفه الارتياد عليك، فأسندها منك إلى كفئها وكافيها، ومدرهها المبرز فيها، ولسانها المترجم عن حقائقها الخفية، ودقائقها المطوية، ثقةً بوثاثة دينك، وصحة يقينك، وشهود هديك وهداك، وفضل سيرتك في كل ما ولاك، ومحض إخلاصك، وقديم اختصاصك، وأجراك على رسم هذه الخدمة في التشريف والحملان، والتنويه ومضاعفة الإحسان؛ فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين مستشعراً للتقوى، عادلاً من الهوى، سالكاً سبيل الهدى؛ فإن التقوى أحصن الجنن، وأزين الزين، {وادْعُ إلى سبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَن}، فإن الله تعالى يقول: {وَمَنْ يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَد أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}، وحض على ذلك فقال سبحانه: {وَمَنْ أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلَى اللهِ وعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ}، وخذ العهد على كل مستجيبٍ راغب، وشد العقد على كل منقادٍ ظاهر، ممن يظهر لك إخلاصه ويقينه، ويصح عندك عفافه ودينه، وحضهم على الوفاء بما تعاهدهم عليه، فإن الله تعالى يقول: {وأوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ العَهْدَ كانَ مَسْئُولاً}، ويقول جل من قائل: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَك إنَّما يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}، وكف كافة أهل الخلاف والعناد، وجادلهم باللطف والسداد، واقبل منهم من أقبل إليك بالطوع والانقياد، ولا تكره أحداً على متابعتك والدخول في بيعتك، وإن حملتك على ذلك الشفقة والرأفة والحنان والعاطفة: فإن الله تعالى يقول لمن بعثه داعياً إليه بإذنه، محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أكْثَرُ الناسِ ولَوْ حَرَصْتَ بمُؤْمِنِين}؛ ولا تلق الوديعة إلا لحفاظ الودائع، ولا تلق الحب إلا في مزرعة لا تكدي على الزارع، وتوخ لغرسك أجل المغارس، وتوردهم مشارع ماء الحياة المعين، وتقربهم بقربان المخلصين، وتخرجهم من ظلم الشكوك والشبهات، إلى نور البراهين والآيات، واتل مجالس الحكم التي تخرج إليك في الحضرة على المؤمنين والمؤمنات، والمستجيبين والمستجيبات، في قصور الخلافة الزاهرة، والمسجد الجامع بالمعزية القاهرة، وصن أسرار الحكم إلا عن أهلها، ولا تبذلها إلا لمستحقها، ولا تكشف للمستضعفين ما يعجزون عن تحمله، ولا تستقل أفهامهم بتقبله، واجمع من التبصر بين أدلة الشرائع والعقول، ودل على اتصال المتل بالممنون؛ فإن الظواهر أجسامٌ والبواطن أشباحها، والبواطن أنفسٌ والظواهر أرواحها، وإنه لا قوام للأشباح إلا بالأرواح، ولا قوام للأرواح في هذه الدار إلا بالأشباح، ولو افترقا لفسد النظام، وانتسخ الإيجاد بالإعدام. واقتصر من البيان، على ما يحرس في النفوس صور الإيمان، ويصون المستضعفين من الافتتان، وانههم عن الإثم ظاهره وباطنه، وكامنه وعالنه، فإن الله تعالى يقول: {وذَرُوا ظاهِرَ الإثْم وباطِنَه}.
واتخذ كتاب الله مصباحاً تقتبس أنواره، ودليلاً تقتفي آثاره، واتله متبصراً، وردده متذكراً، وتأمله متفكراً، وتدبر غوامض معانيه، وانشر ما طوي من الحكم فيه، وتصرف مع ما حلله وحرمه، ونقضه وأبرمه، فقد فصله الله وأحكمه، واجعل شرعه القويم الذي خص به ذوي الألباب، وأودعه جوامع الصلوات ومحاسن الآداب، سبباً تتبع جادته، وتبلغ في الاحتجاج محجته، وتمسك بظاهره وتأويله ومثله، ولا تعدل عن منهجه وسبله، واضمم نشر المؤمنين، واجمع شمل المستجيبين، وأرشدهم إلى طاعة أمير المؤمنين، وسو بينهم في الوعظ والإرشاد، والله تعالى يقول في بيته الحرام: {سَواءٌ الْعَاكِفُ فِيهِ والْبَاد}، وزد لهم من الفوائد والمواد على حسب قواهم من القبول، وما يظهر لك من جودة المحصول، ودرجهم بالعلم ووف المؤمن حقه من الاحترام، ولا تعدم الجاهل عندك قولاً سلاماً كما علم رب السلام، وتوخ رعاية المؤمنين، وحماية المعاهدين، وميزهم من العامة بما ميزهم الله من فضل الإيمان والدين، وألن لهم جانبك واحن عليهم والطف، وابسط لهم وجهك وأقبل إليهم واعطف، فقد سمعت قول الله تعالى لسيد المرسلين: {واخْفَضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِين}، ولا تفسح لأحد منهم في التطأول بالدين، ولا الإضرار بأحد من المعاهدين والذميين، وميزهم بالتواضع الذي هو حلية المؤمنين؛ وإذا ألبس عليك أمرٌ وأشكل، وصعب لديك مرامٌ وأعضل، فأنهه إلى حضرة الإمامة متبعاً قول الله تعالى: {فَاسْألُوا أهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون}، وقوله: {فَإنْ تَنَازَعْتُمْ في شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللهِ والرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وأحْسَنُ تَأْوِيلاً} ليخرج إليك من بصائر توقيفها، ومراشد تعريفها، ما يقفك على مناهج الحقيقة، ويذهب بك في لاحب الطريقة، واقبض ما يحمله المؤمنون لك من الزكاة والجزى والأخماس والقربات وما يجري هذا المجرى، وتتقدم إلى كاتب الدعوة بإثبات أسماء أربابه، واحمله إلى أمير المؤمنين لينتفع مخرجوه بتنقيله له ووصوله غليه، وبترأ ذممهم عند الله منه، واستنب عنك في أعمال الدعوة من شيوخ علم الحكمة ومن تثق بديانته، وتسكن فيه إلى وفور صناعته، واعهد إليهم كما عهد إليك، وخذ عليهم كما أخذ عليك، واستطلق لهم من فضل أمير المؤمنين ما يعينهم على خدمته، ويحمل ثقلهم عن أهل دعوته، واستخدم كاتباً ديناً أميناً مؤمناً بصيراً عارفاً، حقيقاً بالاطلاع على أسرار الحكمة التي أمر الله بصيانتها وكتمانها عن غير أهلها، نقياً حصيفاً لطيفاً، ينزلهم في مجلسك بحسب مراتبهم من العلم والدين والفضل.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك فتدبره متبصراً، وراجعه متدبراً، وبه الوصايا تهدي وتسدد، وتوفق وترشد، واستعن بالله يمدك بمعونته، ويدم حظك من هدايته، إن شاء الله تعالى.
قلت: وعلى هذا سائر السجلات من هذا النوع. وقد أورد في مواد البيان سجلاتٍ غير هذه حذف منها التحميد واقتصر على مقاصدها، وفيما ذكر من ذلك مقنع.
المذهب الرابع مما كان يكتب لأرباب الولايات بالدولة الفاطمية: مرتبة الأصاغر من أرباب السيوف والأقلام:
وليس لهذه الرتبة صيغٌ محصورةٌ في الافتتاح، بل تفتتح بلفظ: إن أمير المؤمنين لما آتاه الله من كذا يفعل كذا وكذا ولما كنت بصفة كذا، وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووزيره وأشار بكذا، قررك أمير المؤمنين في كذا أو يقال: إن أولى أو إن أحق أو إن أجدر أو أقمن أو من حسنت طريقته أو من كان متصفاً بكذا كان خليقاً بكذا أو ولما كان كذا أو منشور تقدم بكتبه فلان ونحو ذلك.
فمن المكتتب عن الخليفة من هذه المرتبة لأرباب السيوف نسخة سجلٍ بزمٍ.
إن أمير المؤمنين لما آتاه الله من المحل الأرفع، وجعله اليوم الآمر المطاع وغداً الشفيع المشفع، يتعهد عبيده بعهاد كرمه، ويجير من هجر النوائب من يحأول ظل حرمه، ويقبل وسيلة من كانت النجابة أقوى وسائله وذممه، ويؤمنه من إلحاق حوادث الدهر به ولممه؛ فلا زال بأمورهم عانياً، وبمكارم شيمته عن رفع مسائلهم غانياً، لا سيما من حسن في الخدمة أثراً وطاب خبراً، ونشرت أوصافه في أيدي الثناء فكانت بروداً وحبراً؛ وضمن له الإحسان في كل زمان أن يأتي مستحمداً لا معتذراً، وعدقت به بحار المحاماة فما أخرجت منه إلا جوهراً. وغرس مقدمات المخالصة وكان لسانح الإنعام مستثمراً، وصقل التجريب صفيحة طبعه وكان لضريبة الحزم مستأمراً، واستبد بموجبات المحامد مؤثراً لها ومستأثراً، وجعلت لديه أسباب الاستقلال التي قلت عند سواه فظل منها مهداً متكثراً.
ولما كنت أيها الأمير ممن قام له هذا الوصف مقام الاسم من المسمى، وتوضحت مخايله به فلم يكن من اللغز المعمى، وقام يقرر من الخدمة مشتملاً، واستقل بشرائط التعويل مستكملاً، وأدرك غايات المحاسن عجلاً متمهلاً، وضمنت له الشبيبة أن يعلو كاهل الرياسة متكهلاً، واشتهر بالتقدم فلم تعرف به أوضاح الصنائع غفلاً ولا مجهلاً، واستوجب أن لا يزال في أفق الإنعام منهلاً عليه يغادر لديه غديراً ومنهلاً، واستحق أن يملأ يديه من ناظره متأملاً، وأدى فريضة النصيحة كافلاً متكفلاً ومعملاً لا متعملاً، ونهض بتكاليف الخدمة متحملاً فيها ما لم يزل متحملاً.
وحضر بحضرة أمير المؤمنين فتاة الذي أفتاه التوفيق باستبراره، ووليه الذي جم به مورد السعد بعد استنزاره: السيد الأجل سيف نصره المهند باسه، وليث حربه والسنان ناب، وسحاب الرحمة إلى الإسلام بها حصل ربحي خضر الجناب، ومتعب الرائح في غيه حتى عزب في سهوب الإسهاب بأطناب الإطناب، ومستحق المدائح التي يعطر بها الجناب، ويعطل بها الركاب، والملك الذي خدمه الملوك لا لرتبة الغناء عنه بل لرتبة المناب، فذكرك بما جملك، واستمطر لك من الإحسان ما جم لك، واستوفق في مناصحة الدولة عملك، وقربت عليك بسفارته بحضرة أمير المؤمنين أملك، وقرر لك الخدمة بالزم الفلاني إخلاداً إلى ما تنطوي عليه جملتك، واعتماداً على ما تعز به كلمتك، فأجابه أمير المؤمنين إلى ما أجابك إليه، وتقدم أمره باستخدامك فيما عين عليه، وخرج أمره إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل بتقليدك ذلك، فتقلد ما قلدته مستشعراً لباس التقوى، ناهياً للنفس عن الهوى، سالكاً الطريقة المثلى؛ قال الله سبحانه: {والعاقِبَةُ لِلتَّقْوى}. وهذه الخدمة من أمراء قبائل العرب، وهي المنبع وسواها الغرب، وما فيها من يدعى إلى خدمة إلا طبق المفصل وأتى على الأرب؛ فخذها بالمرسوم لما تندب له من المهمات السانحة والعوارض، والخفوف إليها بالأسلحة الروائع والخيول النواهض، وألزم رجالها أن تحفظ من الطرقات ما يصاقبها، وأن تسوق كل نفس بجنايتها إلى من يعفو عنها أو يعاقبها، وقدم العرض الذي يستدل به على من كان بالوفاء ساقطاً، وعن أعمال المملكة ساخطاً، ليسترجع الديوان ما كان بيده، ويفتضح من كانت الخيانة سريرة مقصده، فاعلم هذا واعمل به.
ومن ذلك نسخة سجل بولاية ثغر، وهي: إن أولى من رقاه إنعام أمير المؤمنين إلى المحل اليفاع، وشفعت فيه وسائل فضائله فغني عن الاستشفاع، وعظم له النفع لما به من عظيم الانتفاع، وجردته يد الاختيار سيفاً من سيوف الذب عن الملة والدفاع، واستقر في الرتب التي لا تنقل إلا إلى الزيادة ولا تغير إلا إلى الارتفاع، وجليت عليه وجوه النعماء واضحة للثام واضعة اللفاع، ونيطت منه وصايا الحزم بحافظٍ لها واع، وتوفرت عليه بواعث الصنائع ودعت إليه دواع- من ترشح بالاستحقاق للرتب السنية وتأهل، وسبق المجارين في حلبة الإخلاص على أنهم جهدوا وتمهل، واستوجب امتطاء كاهل الرياسة بالفتك الذي شب والرأي الذي تكهل، وثبت جأشه في المقامات التي يراع لها كل روع ويذهل، ومنعت مهابته العدو أن يجهل عليه وأبت له حصافته أن يجهل، وغريت همته بالمطلب الأصعب من العلاء وأنفت من المطلب الأسهل، وولي الولايات الجليلة فظلت الرعايا تعل من موارد عدله وتنهل، ونشأت لهم سحب الركاب التي برقها يتهلل وعارضها ينهل.
ولما كنت أيها الأمير الناهض بحقوق هذه السمات، البعيد القدر من المساواة والمسامات، المتنقل في درجات التقدمة والكرامات، المنفرجة عن أنوار فتكاته ظلمات المقامات، المعد النجدة لمواقف البأساء والضراء والراد على أعقابها الأبطال المعلمة بالفتكات المعلمات، الدائم الغرام بمقامات الرياسة وإن كانت عظيمة المؤن جسيمة الغرامات، القائم بما توجبه عليه صنائع أمير المؤمنين من حقوق المدافعة عن الحوزة وفروض المرامات، المتظاهرة فيه شواهد الفضائل بأصدق الأعذار وأوضح العلامات، المشهور المقامات، إذا جرت من متون الصفاح جدأول واهتزت من غصون الرماح قامات، الآخذ بالأرصاد على العدا بسيوفٍ ترقب الرقاب وتهيم في الهامات، الكافي الذي تنقل في الخدم فكان من الشكر مثري الأثر، وانتدب في المهمات فكان مثاب التواء مسفر السفر، المعروف في تصرفاته بانتهاز النجح وقصر البجح، والمعول على أن تصفه أفعاله بشرحٍ لصدر الاختيار به شرح، المعدود يوم الروع من كفاة الخطب وحماة السرح، الماضي الحد إذا كان السيف لعدم الضارب مشتبه الحد بالصفح، وقدم فعل الاستقلال، وأخر سؤال الاستغلال، وأسكنه من المخالصة إلى دارٍ ببلوغ الآمال محلال، وارتفعت كاهل المجد بسعي لمحظورها به استحلال، وسهلت إلى الطاعة كل معتاص من المطالب، وغدا الاستحقاق بمرادك نعم الكفيل وبأملك نعم الطالب، واشتهرت بخلالٍ اقتضت الرغبة يما اقتضته إليك من الرغائب، وعظم النفع بك حتى لا نفع مع غيبتك بحاضر ولا ضرر مع حضورك بغائب. ومثل بحضرة أمير المؤمنين فتاه ووليه وأمينه السيد الأجل، الذي سارت أوصافه مسير الشمس وأنارت إنارتها، وسقت مكارمه سقي الغيوث وأمارت إمارتها، وسرت خيوله مسرى طيف الخيال وإن كره الأعداء زيارتها، وقامت مهابته مقامها في البلاد وأغارت على القلوب إغارتها، ونازع الأقمار بعلو القدر دارها وما حسبوا الدست له دارتها، وأشارت له السعادة العلوية وأمضى التلطف إشارتها وأحسن به شارتها، وطالع بما أنت عليه من طاعةٍ تبذل فيها الطاقة، وكفايةٍ إذا تعاطاها الوصف المتسع ضيق نطاقه، وعدك في سرعان الأولياء إذا رتب سواك في الساقة، واحتسب بما لك من حسنات نظمها نظم السياقة، وبما قرره لك من الخدمة إلى ولاية كذا- خرج أمر أمير المؤمنين بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بالخدمة المذكورة، سكوناً إلى مناصحتك التي سكنت ضميرك، وركوناً إلى موالاتك التي حققت أملك وتقديرك، وإيراداً لك إلى الموارد التي توجب تقديمك وتصديرك؛ فتقلد ما قلدته منها بادئاً بتقوى الله التي إن جعلتها جنتك كانت جنتك، وإن استشعرتها عمدتك أنجزت في الدارين من السعادتين عدتك؛ قال الله تعالى في كتابه المكنون: {إنَّ اللهَ مَعَ الَّذينَ اتَّقَوْا والَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُون}، وقال تعالى: {ويُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقّوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون}، وابدأ في هذا الثغر الجليل قدره، المصاقب لما به محل السعد ومقره، الميسر به لكل عاملٍ ثوابه وأجره، المحضوض على رباطه لمن توفر حظه من ذخائر الآخرة فأحسن ذخره- بعدل القضايا وصون الرعايا، وبث السرايا، وترويع العدو من جميع المطالع والثنايا، وإهداء المنايا إليه في الغدوات والعشايا، والتطلع على ما يجنه من المكايد والخفايا، وكفاية أوساط الصفاح مصافحة أطراف الرماح تحايا، ولا تخليه أن تجهز في كل يومٍ إليه رايةً أو تنفذ فيه رايا، وأن تسترزق الله أمواله مغانم وحريمه سبايا، وتطلع عليهم في عقر دارهم طوالع المنايا وقوارع الرزايا، حتى لا تلوح فرجةٌ إلا اقتحمتها، ولا تعن فرصةٌ إلا اغتنمتها، وامدد على من بهذا الثغر جناح الرعاية والذب، ومهد لهم جانب العدل ليتبوءوا فيه آمني السر والسرب، وصنهم صيانةً ترفع عنهم عوادي المضار، وتوطد لهم أكناف السكون والاستقرار، واعتمد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما يطلق فيك ألسنة المادحين، وينظمك في سلك من نحاه الله بقوله: {يأْمُرُون بالمَعْرُوف ويَنْهَوْن عن المُنْكر وأُولئكَ من الصَّالِحِين} وأقم الحد على من وجب عليه إقامةً لا تتعدى فيها الواجب، ولا تفارق بها منهج الحق اللاحب، وتوخ متولي الحكم بإعزاز ينفذ حكمه، وإكرامٍ يشد في الحق عزمه، ويردع الظالم ويمنع ظلمه، وكذلك المستخدم في الدعوة الهادية عامله بما يشد أزره، ويشرح في دعاء المستجيبين صدره، وبالغ في عضد المستخدمين مبالغةً تدر بها الأموال، وتوجد بها السبيل إلى توفير عطيات الرجال، وتوسع عليهم فيها المجال، وامنع من يتعرض لكسب الضرائب، والإخلال بإلزام الواجب، وشرور الأقلاب، وقصد سرح لمال بالتباب، وأقم للسور شطراً من اهتمامك تعمر أبراجه وأبدانه، وتستخدم حراسه وأعوانه، وترتب عليه الوقود في الليالي المظلمة، وتعجز عن مناله المطامع الميسورة والأيدي المتسنمة، وواصل من عمائره ما يتلافى الخلل قبل انفراجه، ويعيد مبدأ الغارة على أدراجه، فالقليل بالغفلة يستدعي كثرة الاهتمام، وربما لم تصب فيه المرمى ولم ينجع المرام. دعوة الهادية عامله بما يشد أزره، ويشرح في دعاء المستجيبين صدره، وبالغ في عضد المستخدمين مبالغةً تدر بها الأموال، وتوجد بها السبيل إلى توفير عطيات الرجال، وتوسع عليهم فيها المجال، وامنع من يتعرض لكسب الضرائب، والإخلال بإلزام الواجب، وشرور الأقلاب، وقصد سرح لمال بالتباب، وأقم للسور شطراً من اهتمامك تعمر أبراجه وأبدانه، وتستخدم حراسه وأعوانه، وترتب عليه الوقود في الليالي المظلمة، وتعجز عن مناله المطامع الميسورة والأيدي المتسنمة، وواصل من عمائره ما يتلافى الخلل قبل انفراجه، ويعيد مبدأ الغارة على أدراجه، فالقليل بالغفلة يستدعي كثرة الاهتمام، وربما لم تصب فيه المرمى ولم ينجع المرام.
ومراكب الأسطول المنصورة فولها من ترتضي نهوضه، ومن يقوم بشرائط الجهاد المفروضة؛ وإذا آنس فرصة لم يعترضها التفويت، وإذا نزل به القرن ناداه بعزم المستميت، وإذا عرا المجتمع عرض جمعه للتشتيت، واحتط على حواصل هذه المراكب فبها قوة الإسلام على عدوه، ومدد استظهاره وعلوه، وأقم من الرؤساء من له حيلةٌ في الأسفار، وخبرة بمكايد الغارات والحصار، ومثابرةٌ يقتدر بها على فتح أبواب المنافع وسد أبواب المضار؛ ولك من البصيرة الجامعة، والألمعية اللامعة، ما أنت به جديرٌ أن تكون لك الذكرى نافعة؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني مما كان يكتب في الدولة الفاطمية بالديار المصرية: ما كان يكتب عن الوزير:
وقد علمت في الكلام على المسالك والممالك أن الوزير إذ ذاك كان في منزلة السلطان الآن؛ وكان الشأن فيما يكتب فيه أن يفتتح بما يفتتح به المذهب الثالث مما كان يكتب عن الخليفة، وهو أن يفتتح ما يكتب بلفظ: إن أولى أو إن أحق أو إن أجدر أو إن أقمن أو من حسنت طريقته أو من كان متصفاً بكذا كان خليقاً بكذا وبلما كان فلان أو لما كنت على نحو ما تقدم.
ثم ما يكتب عن الوزير: تارةً يكتب بأمر الخليفة، وتارةً يصدر عن الوزير استقلالاً، فيبينه الكاتب في كتابته، وهي: إما لصاحب سيف، أو قلم.
فمن المكتتب عن الوزير في الدولة الفاطمية لأصحاب السيوف نسخة سجل بولاية الإسكندرية من إنشاء القاضي الفاضل رحمه الله، وهي: من عد من الأولياء الأماثل، ووجد عند الانتقاد قليل المماثل، وتوسل بالحسنات التي يقبل عنده منها تشفيع الوسائل، وتقبل السفارة له الشاملة الاستحقاق الذي يغني عن المسائل، ولطف فكره لاقتناء الشيم الموجبة لارتقاء الدرجات الجلائل، وألقت الرتب قناعها له عند الكفء الذي يقدم لها أفضل مهور الحلائل، وأسفرت مواقف الغناء منه عن الهزبر الشهم واللوذعي الحلاحل، وأفرج له الكفاة عن صدور المنازل الرفيعة فلم يكن بينه وبينها حائل، واستقل بعظيم ما يفوض إليه فلم تحمل الأقوام ما هو حامل، واتسع مجال كفايته في كل أمرٍ يضيق بالمباشر ضيق كفة الحابل، وتتبع آثار الخلل بعزماته تتبع الغيث آثار الديار المواحل- كانت الولايات الجليلات له من المعد المدخر، وقربت عليه منازل الآثار التي يتجمل بها ويفتخر.
ولما كان الأمير جامعاً لما أفيض فيه من هذه الصفة، وموصوفاً بها من كل لسانٍ صادقٍ ونيةٍ منصفة، جاريةً على غيره مجرى النكرة ومستندةً إليه استناد المعرفة، مشتملاً على خلال كغرائب المكارم مستوفية متألفة، كلفاً بالشيم الحميدة إذا افتضحت بها الشيم المتكلفة، قمناً أن يوفي فيقرض سعيه إذا اقترضت المساعي المتسلفة، نهاضاً بالمصاعب عندما تختلف في إعطائها العزائم المتخلفة، آوياً من رجاحته إلى المعقل الحريز والحصن الحصين، حاوياً لفضائل حسنةٍ منها الفتك الجري والرأي الرصين، مقدماً على الأهوال إذا تغلقت وجوهها غبراً، مصراً على الخطرات حتى يظنه الغمر غمراً، مصافحاً للرماح، إذا بدت أنامل الأسنة، مباشراً للصفاح، إذا ذعرت لها النفس المطمئنة، جديراً أن يرد الخيل المغيرة تدمى نحورها، وتمدحك وتذمها الجراح التي اشتملت عليها ظهورها، وسما للأعداء سيوفك فعندك غمودها وفيهم صدورها- رأينا بما آتاه الله من رأي لا يستأخر أن يستخير، ونظرٍ يستمر أن يمتاح من موارد الرشاد ويستنير، ما خرج به أمرنا من ولايتك لثغر الإسكندرية بعد أن طالعنا مولانا صلوات الله عليه بما رأينا، واسترشدنا بميامن إمضائه ما أمضينا، وفاوضناه فيما فوضناه إليك وأفضينا، وقضينا حق الخدمة فيما استمطرنا من صوب واقتضينا، إذ كان الله قد خص خلاله بمواتاة الأقدار، ووقف الميامن على ما يمضيه ويوقفه من أعنة الإيراد والإصدار، وجعل الخيرة فيما يختار، والحق دائراً حيث دار، وأخلص للأولياء المستشعرين بولائه بخالصةٍ ذكرى الدار، وجعل رأيه قطباً في سماء الخلافة عليه في مصالح خلق الله المدار، فصحح ما عرضناه على مقام خلافته وصوبه، وناجته بديهة الإلهام بما إنته عما صعد فيه المستشير وصوبه، وخرج إلينا بأن يمضى لك هذا الأمر، ويفوض إليك هذا الثغر؛ فلتقابل هذه النعمة بشكرٍ يوجب استيفاء باقيها، واعتدادٍ يمهد درجات مراقيها، متنجزاً وعد الله لمستوفيه بإيلاء المزيد، الجدير بإحالته من حالة التقليد إلى حالة التخليد، جاعلاً تقوى الله حجته فيما يقطعه ويصله، وعمدته فيما يمنعه ويبذله، قال الله سبحانه في كتابه الذي فضله على كل كتاب: {وتَزَوّدُوا فإنَّ خَيْر الزَّادِ التَّقْوى واتَّقُونِ يأُولي الألْباب}؛ ولا تجعل في حكمك بين الخصماء فرقاً وإن عدل أحدهما، وليكن على الحق الذي لا مفاضلة فيه مقعدهما عندك وموردهما، وانتصف للمظلوم من الظالم، واعمل في ذلك عمل من لا تأخذه في الله لومة لائم، وأقم الحدود متحرياً، وأمضها إمضاء من لا يزال بعين طاعة الله متحلياً، ونفذها غير مكثر ولا مقل، فإن المكثر متعدٍ والمقل مخل. وقد علمت ما للقاضي من التقدمة الشهيرة، والرتبة الأثيرة، والمساعي التي هي بألسنة الحمد مأثورة، والأقوال التي هي في صحائف حسن الذكر مسطورة، والحرمات التي شهدت بها الأيام واليال، والموات التي انتظمت في سلوك التصرفات إنتظام اللآلي، والصفات التي زهت بها أجياد المحامد الحوالي؛ وله الخبرة بقوانين هذا الثغر وأحكامه، والعادة التي لا خلاف أنها لمصالح ما يباشره وإحكامه، وأنت مقدم أرباب السيوف في الثغر وهو مقدم أرباب أقلامه، فاعرف له منزلته في الخدم المنوطة بكفالته، والأمور المحوطة بإيالته، ووفه من أثر الإكبار حقه، ويسر فيما اشتد عليه من معونتك طرقه، وأعن الداعي على ما هو بسبيله من الإرشاد، وقم في إعلاء مناره قيام المغرم الشاد.
والأموال أولى ما صرفت إليها همك، ووقفت عليها عزمك، فاستنهض المستخدمين فيما يستادى، ولا تمكنهم أن يحدثوا رسماً ولا يسقطوا معتاداً؛ ولا بد من المقام بظاهر البحر مدة انفتاحه، وتفقد الأسطور المقيم بالميناء تفقداً يستوعب أسباب إصلاحه، وأذك العيون على سواحله فلم يخل أمر العدو من طارق ليل وخاطف نهار، وذدهم عن بغتات هجومهم بما يبلغهم عنك من دوام التيقظ والاستظهار، واستنهض الرجال في نوائب الخدم وحوادثها، وصرفهم على موجبات المتجددات وبواعثها.
وهذا الثغر ففيه من أرباب الزوايا العاكفين على العبادات، والعلماء الداعين الناس إلى الإفادات، من لا يدخر الإكرام إلا لأن يؤدى إلى استحقاقهم، ولا يصان المال إلا لأن يبذل لاستحقاقهم؛ فأوصل إليهم ما هو مقرر لهم إيصالاً هنياً، وأعفهم من مؤونة الهز وساقط عليهم رطباً جنياً، واستنهض لنا دعواتهم فإنها أسهم الأسحار، واستخلص لنا نياتهم فهم لنا جند الليل وغيرهم لنا جند النهار؛ والسلام.
ومن ذلك نسخة سجلٍ بحماية الرباع، وهي: من كان فيما يتولاه مشكور السعي محمود الأثر، مستعملاً من النصح وبذل الجهد ما يزيد الخبر فيه على طيب الخبر، معتمداً ما يدل على درايةٍ وخبرة ودربة، متوخياً ما يجعل الخدم إذا ما ردت إليه لم تحل في دار غربة- استحق أن يورى زنده، ويرهف حده، وتقوى منته، وتشحذ قريحته.
ولما كنت أيها الأمير ممن عرف نفاذه وأحمدت خلاله، وشكرت طرائقه وارتضيت أفعاله، وظهر فيما يباشره غناؤه واستقلاله، وجمع إلى الكفاية نزاهة، وإلى الأمانة نباهة، وإلى اليقظة عفافاً وسداداً، وإلى النهضة حزامةً لا يجد الطالب عليها مستزاداً، تقدم فتى مولانا وسيدنا باستخدامك في حماية الرباع السلطانية بالمعزية القاهرة المحروسة: سكوناً إلى جدك وتشميرك، وتعويلاً على تأتيك وتدبيرك؛ فاستخر الله وباشر ما رد إليك من هذه الحماية بعزم لا يمازجه فتور، وحزم لا يصاحبه قصور، واكشف أحوال هذه الرباع كشفاً يعرف به حالها، ويعلم منه استقامتها واختلالها، وانتصب لاستخراج مالها من السكان، واستعمل في استيدائه غاية الاستطاعة والإمكان.
وملاك الأمر فيها أن تتعهدها بالطواف فيها، وأن تحافظ على حراسة غيرها، وتنأول أجرها، ورم ما لعله يسترم منها ويتشعث، والعكوف على ذلك بحيث لا يتوقف فيه أمرٌ ولا يتريث، وحمل مال ارتفاعها إلى بيت المال المعمور بعد ما يصرف في مصالحها، ويطلق فيما يتثبت به عليها؛ ولك من الأمير من يعينك وينجدك، ويلبي دعوتك ويعضدك، ويظافرك على انتظام شؤونك ومقصدك: من الاشتمال بما يزيد على تأميلك؛ فاجعل عليه اعتمادك، وبه في الحل والعقد استرشادك؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن الوظائف المكتتبة عن الوزير لأرباب الوظائف الدينية نسخة سجل بالحكم بقوص ومشارفة أعمال الصعيد، وهي: من تقدمت لأسلافه خدم ومناصحات، وكانوا مشهورين بأن طرائقهم في السداد مستقيماتٌ واضحات، وعرف جميعهم بالصيانة والديانة، والثقة والأمانة، والمحافظة على ما يحظيهم عند ولي نعمتهم، والعمل بما يقضي بطيب ذكرهم وحسن سمعتهم، كان ذلك ذريعةً له ووسيلة، وماتة ينال بها المواهب الجزيلة.
ولما كنت أيها القاضي على القضية المرضية من ولاء الدولة وطاعتها، والحرص على الإخلاص لها ومشايعتها، والتحلي بالعلم والتمييز في أربابه، والتعلق بفعل الخير والتمسك بأسبابه، والعمل بما ينفعك في عاجلتك وآجلتك، والاجتهاد فيما يبعث على وفور حظك من الإنعام وزيادتك، وكانت لك دربة فيما تعانيه ودراية، وصولة في حسن التأتي إلى أمدٍ بعيدٍ وغاية؛ وقد تقدمت لأخيك القاضي الرشيد- رحمه الله- خدمةٌ أبانت عن حرصه ومناصحته، وأعربت عن وفور نصيبه من النهى ورجاحته، فأدى ذلك إلى بلوغه من رتب أمثاله أقصاها، وإلى أن استقرت خدمه عليه وألقت عنده عصاها؛ وهذه نصيبك إذا اقتفيتها فقد عرفت مفضاها، وإذا عكفت عليها نالك من الإحسان على حسبها ومقتضاها- تقدم فتى مولانا وسيدنا باستخدامك في النيابة في الحكم بمدينة قوص والمشارفة بأعمال الصعيد الأعلى: تنويهاً بك وتكريماً لك، وتمهيداً لمكان الاصطناع الذي رتبك فيه وأحلك؛ فاعرف قدر هذه النعمة، وقابلها ببذل الطاقة في النصح في الخدمة، وبالغ في الشكر الذي يثبتها عندك ويديمها لك، واحرص على القيام بحقها حرصاً تبذ به نظراءك وأمثالك، واعمل في ذلك بما تضمنه التقليد المكتتب لك من مجلس القاضي الأعز الماجد أدام الله تمكينه، وما أودعه من وصايا مرشدة، وهداياتٍ إلى الصواب مقربة وعن الخطإ مبعدة، وافعل في أمر المشارفة ما اشتملت عليه التذكرة المعمولة من الديوان فإنه يوضح لك منهج الصلاح، ويأتيك منه بما يزيد على البغية والاقتراح، وانتصب للعمارة والاستكثار من الزراعة بالمعدلة على المعاملين، والاستخراج لحقوق بيت المال على أحسن القوانين، وواصل من الحمول، ما يكون محققاً للمظنون فيك والمأمول؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله عز وجل.
ومن ذلك نسخة سجل بالنيابة في الحكم والأحباس والجوالي بثغر دمياط، وهي: أحق من كانت المواهب عنده مخلدة، والمنائح إليه متواصلةً متجددة، والعوارف تفد عليه فتخيم في مغناه وتقيم، والفواضل تأتي نحوه فتستقر في مثواه ولا تريم، والنعم الشتى لا تشكو في مواطنه استيحاشاً ولا اغتراباً، والمنن إذا حبي بها كان نيله له استحقاقاً منه لها واستيجاباً- من كرمت أعراقه ومحاتده، وشهرت أوصافه ومحامده، وصفت في المخالصة مصادره وموارده، وكثرت في تقريظه غرائب الثناء وشوارده، وشيد منار أسلافه بالتخلق بخلائقهم، وأبقى الحديث عنهم بانتهاج سبلهم وطرائقهم، وأحسن برهم في الاقتفاء لأثرهم والاقتداء بهديهم، وإحياء ذكرهم، بالعمل بما كانوا عليه في عودهم وبدئهم.
ولما كنت أيها القاضي لهذه الخلال جامعاً، وإلى المراشد مصغياً سامعاً، ولبلوغ ما ناله أسلافك بالمناصحات راجياً طامعاً؛ ولك فيما يسند إليك نظرٌ يدل على صواب آرائك، وفيما يرد إلى توليك كفايةٌ تميزك على نظرائك؛ ولما ندبت للأحكام الشرعية، أبنت عن الديانة والألمعية، وحين باشرت الأعمال الديوانية، نصحت واجتهدت وأخلصت النية؛ والذي بيدك يتمسك بك، ويتعلق بسببك، لأنك لما استكفيته نهضت وأحسنت، فلذلك يأبى أن يكلفه غيرك وأن لا يتكفله إلا أنت- تقدم فتى مولانا وسيدنا بكتب هذا المنشور بتجديد نظرك فيما هو بيدك من النيابة في الحكم العزيز بثغر دمياط- حماه الله تعالى- والمشارفة على الأحباس به، وعلى مستخرج الجوالي فيه، تقويةً لعزمك، وإمضاءً لحكمك، وشداً لأزرك، وتأكيداً لأمرك، وإنفاذاً لقولك، وبسطاً ليدك، وإيضاحاً لميزتك، وإظهاراً لتكرمتك، وإبانةً عن حسن النية وإعراباً عن جميل الرأي فيك؛ فاجر على رسمك وعادتك، واستغن بما أودعته تقاليدك من الوصايا، واستمر على نهجك الذي أفضى بك إلى أحمد الأفعال وأجمل القضايا، واستمر على نهجك الذي أفضى بك إلى أحمد الأفعال وأجمل القضايا، وارتبط النعمة عندك بتماديك على عادتك، وتوسل بمشكور السعي إلى نمو حظك ووفور زيادتك؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله عز وجل.
ومن ذلك نسخة سجل بالحكم بالأعمال الغربية، وهي:
من كان بالعلوم الدينية قؤوماً، وفي الأمور الشرعية ممن يشار إليه ويومى، وظل من يجاريه من طبقته قليلاً إذا لم يكن معدوماً، وعلم نفاذه الذي سلم من المناقضة فيه والاختلاف، وعرف اعتماده الواجب من غير ميل عنه ولا انحراف، وكان لشمل الديانة والأمانة مؤلفاً جامعاً، وغدا الوصف بجميل الخلال وحميد الأفعال عنه مسموعاً ذائعاً؛ وآثاره في كل ما يتولاه مداحه وخطباؤه، وسفراؤه في الرتب الجليلة نزاهته وظلف نفسه وإباؤه- صارت الأحكام بنظره مزهوة، وأضحت الخدم الخطيرة تتوقع بإسنادها إليه استظهاراً وقوة؛ فهي تتشوف إلى أن يوليها حظاً من محاسنه يكسبها نضرة وبهاء، وتتصدى من نظره فيها لما يضمن لها إدراكاً للإرادة وبلوغاً إليها وانتهاء.
ولما كنت أيها القاضي حائزاً لهذه الصفات، محيطاً بما اشتملت عليه من الأدوات، سالكاً أعدل طريقٍ في الأمور إذا أشكلت، عاملاً بقضايا الواجب إذا اعتمدت الإقبال عليك واتكلت؛ ولك الخدمة السنية، التي لا تطمح إليها كل أمنية، والرتب الرفيعة التي لا ينالها إلا من كان عمله موافقاً لصادق النية؛ وكل ما تباشره يغتبط بك ويأسى على فراقك، وكل ما حظر على غيرك مباحٌ لك لاستيجابك له واستحقاقك؛ فمن العدل أن تكون كفايتك على الأعمال مقسمة، وأن تكون آثارك في كل ما تعانيه من أمور المملكة علامةً لك عليها وسمة؛ وكانت الخدمة في الحكم بالغربية من التصرفات الوافية المقدار، السامية الأخطار، التي لا يسمو كل آمل إليها، ولا يحدث كل أحد نفسه بتوليها؛ وقد اشتهرت خبرتك بالأحكام، وحفظك فيها للنظام، وبتك للقصص المشكلة، ورفعك للنوب المعضلة- فرأينا استخدامك نائباً عن القاضي الأعز الماجد في الصلاة والخطابة والقضاء بالأعمال الغربية المقدم ذكرها: إذ كنت تعدل في أحكامك، ولا تخرج عن قضايا الصواب في نقضك وإبرامك، ولا تحابي في الحق ذا منزلة، ولا تنفك معتمداً ما يقضي لك بالميزة المتأكدة والرتبة المتاثلة، وأمرنا بكتب هذا المسطور شداً لأزرك، وتشييداً لأمرك، وإيراءً لزندك وتقويةً لعزمك، وضمناه ما تقدم ذكره من وصفك وشكرك، وتقريظك وإجمال ذكرك، والثناء على علمك، والأبانة عن قضيتك في قضائك وحكمك؛ فاعمل بما اشتمل عليه التقليد المكتتب لك من مجلس الحكم العزيز وانته إلى ما أودع من فصوله، وكن عاملاً بمضمونه متبعاً لدليله؛ والله يوفقك ويرشدك، ويعينك ويسددك؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله عز وجل.
ومن ذلك نسخة سجل بالحكم والمشارفة بثغر عسقلان من سواحل الشام، وهي: الذي منحنا الله من المفاخر الدالة على محلنا عنده، والمآثر التي أوصلنا بها من الشرف إلى أمدٍ لا غاية بعده، والقضايا العادلة التي أبانت عما أجراه الله لنا من اللطائف، والسياسة الفاضلة التي تشهد لنا ببياض الصحائف، قد ضاعف حظنا من التأييد فيما نراه ونمضيه، وضمن لنا الهداية في حق الله تعالى إلى ما يرضيه، وأجزل قسطنا من التوفيق في اجتباء من نجتبيه، وحبب لنا إسناء المواهب لمن كان قليل النظير والشبيه، ووقف اهتمامنا على التنبيه على كل مشكور المساعي، وصرف اعتزامنا إلى التفقد للمقاصد التي هي على الاصطفاء من أقوى الدواعي، ووفر التفاتنا إلى تأمل الإخلاص الذي صفت موارده، وصحت سرائره، وأحكمت معاقده، وأحصدت مرائره، وتوكل لصاحبه في بلوغ المطالب البعيدة المطارح، وتبتل لمن وفق له في سبوغ العوارف المخصبة المسارح، وجعلنا لا نغفل عمن بذل في الطاعة مهجته، وأظهر بدؤوبه وانتصابه دليله على الولاء المحض وحجته، وأبان عن تقواه وحسن إيمانه، وتقرب باستفراغ وسعه إلى الله تعالى وإلى سلطانه، وعمل فيما ائتمن عليه ما استوجب به جزيل الأجر، وكان له من رأيه في أعداء الملة ما يقوم مقام العسكر الجر، وعلم أن تجارته في المخالصة نافقةٌ مربحة، وأن مراميه في المناصحة صائبةٌ منجحة، وتيقن أنا بحمد الله لا نخيب أملاً، ولا نضيع أجر من أحسن عملاً.
ولما كنت أيها القاضي المكين المرتضى ثقة الإمام جلال الملك وعماده ذو المعالي صفي أمير المؤمنين، مستولياً على هذه الخلال، التي تكفلت لك بإعلاء القدر، ومحتوياً على هذه الخصال، التي رتبتك على نظرائك في الصدر، ولك من الحرمات سوابق لا يطمع فيها بلحاقك، ومن الموات شوافع تجعل جسائك النعم وقفاً لاستحقاقك؛ وقد عرفت بالجد والتشمير، واشتهرت بصادق العزم وصائب التدبير، وجعلت مؤهلاً لكل أمير خطير ومهمٍ كبير، واستقر أنك إذا استكفيت جسيماً فقد وكل منك إلى الأمين الخبير: لأن لك الرياسة التي لا تجارى فيها ولا تبارى، والكفاية التي لا يختلف فيها ولا يتمارى، والفضائل التي تشهد بها أعداؤك وحسادك اضطراراً؛ وما زالت أفعالك في كل ما تتولاه من الخدم الجللة دالةً على كرم طباعك، وآثارك معربةً عن سعة ذرعك في الخير وامتداد باعك، وأخبارك ناطقةً بإبائك عن الباطل واقتفائك للحق واتباعك؛ ولما نظرت في القضاء تهلل بنظرك وجه الشرع، وأبنت عن اضطلاعك من علمه بالأصل والفرع، وعدلت في أحكامك، ولم تعدل عن الواجب في نقضك وإبرامك، وفعلت ما أقر عين الملة، وأربيت على من تقدمك من القضاة الجلة، واعتمدت من الإنصاف ما بردت به الغلة وأزحت به كل علة، ووفيت هذه الخدمة جميع شروطها، وفسحت في توليك أماني المظلومين بعد ضيقها وقنوطها، وقمت في ذلك المقام الذي يقضي بثبوت النعمة عندك وخلودها، وبالغت في ارتباطها بالشكر لعلمك أن شرودها بكنودها. فأما الإشراف فإنك أتيت فيه ما دل على حسن المعرفة، واستقبلت في وجهه كل صفة، وأوضح أن كل من باشره لم يبلغ مداك، والا جرى مجراك، ولا وصل إلى غايتك، بل ما طمع بمداناتك ولا مقاربتك؛ وكل ما عدق بكفايتك فقد أتيت بحمد الله فيه على الأغراض، لا جرم أنه مستدعٍ لزيادتك ومطالبٌ ومتقاض؛ فحين اجتمعت لك هذه الأسباب استوجبت من إنعامنا ما يتنزه كرمنا عن تعويقه، ومن جزيل إحساننا ما يكون تعجيله حقاً من حقوقه؛ فشرفناك بتجديد ما هو بيدك من الحكم العزيز والمشارفة بثغر عسقلان حماه الله تعالى، وجعلنا النيابة في الحكم عنا تنويهاً بك ورفعاً لشانك، وتبييناً لموضعك عندنا ومكين مكانك؛ فاعمل بتقوى الله التي أمر بها في كتابه الذي به يهتدي المؤمنون فقال عز من قائل: {يا أيها الذِين آمنُوا اتقُوا اللهَ ولتنْظُرْ نفْسٌ ما قدَّمتْ لغَدٍ واتَّقُوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تَعْمَلُون}، واجر على عادتك فيما حسن أثرك، وأطاب خبرك، معتمداً على ما تضمنته عهودك، واشتملت عليه تقاليدك: من المساواة بين القوي والضعيف في الحق، وإجراء الشريف والمشروف في المحاكمة مجرًى واحداً من غير فرق، والنظر فيمن قبلك من الشهود، وحملهم على القانون المألوف المعهود: من إقرار من ترتضيه، والمطالعة بحال من تأباه لما توجبه طريقته وتقتضيه، والمحافظة على أن لا يتعلق بشيء من أمور الحكم إلا من أحمد فعله، وحصل له من التزكية ما يزكى به مثله، إلى غير ذلك مما أودع فيها، وأحاطت بها الوصايا التي لم يزل يستوعبها ويستوفيها. واستقم على سبيلك في ضبط المال وحفظه وصونه، واستعن على بلوغ المراد في ذلك بتأييد الله وتوفيقه وعونه، وتماد على سنتك في النظر في أحوال الثغر المحروس والانتصاب لمصالحه، والتوفر على منافعه، والاجتهاد في الجهاد بآرائك، والاستمرار في ذلك على سديد أنحائك؛ والله ولي عونك وإرشادك، والمان بتبليغك فيما أنت فيه أقصى مرادك؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة سجل بتدريس، وهي:
أمير المؤمنين لما منحه الله من الخصائص التي جعلته لدينه حافظاً، ولمصالح أمور المسلمين ملاحظاً، ولما عاد بشمول المنافع لهم مواتراً، وبما أحظاهم عنده تبارك وتعالى معيناً وعليه مثابراً، لا يزال يوليهم إحساناً وفضلاً ومناً، ويسبغ عليهم إنعاماً لم يزل تسم هممهم إلى أن تتمنى؛ وقد يسر الله تعالى لخلافته ودولته، ووهب لإمامته ومملكته، من السيد الأجل الأفضل، أكرم ولي ضاعف تقواه وإيمانه، وأكمل صفي وقف اهتمامه واعتزامه على ما يرضيه سبحانه، وأعدل وزير لم يرض في تدبير الكافة بدون الرتبة العليا، وأفضل ظهيرٍ ابتغى فيما أتاه الله الدار الآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا؛ فهو يظافر أمير المؤمنين على ما عم صلاحه عموم الهواء، ويفاوض حضرته فيما يستخلص الضمائر بما يرفع فيه من صالح الدعاء.
ولما انتهى إلى أمير المؤمنين ميزة ثغر الإسكندرية- حماه الله تعالى- على غيره من الثغور، فإنه خليقٌ بعنايةٍ تامةٍ لا تزال تنجد عنده وتغور: لأنه من أوقى الحصون والمعاقل، والحديث عن فضله وخطير محله لا تهمة فيه للراوي والناقل، وهو يشتمل على القراء والفقهاء، والمرابطين والصلحاء، وأن طالبي العلم من أهله ومن الواردين إليه، والطارئين عليه، متشتتو الشمل، متفرقو الجمع- أبى أمير المؤمنين أن يكونوا حائرين متلددين، ولم يرض لهم أن يبقوا مذبذبين متبددين؛ وخرجت أوامره بإنشاء المدرسة الحافظية بهذا الثغر المحروس بشارع المحجة مناً عليهم وإنعاماً، ومستقراً لهم ومقاماً، ومثوًى لجميعهم ووطناً، ومحلاً لكافتهم وسكناً؛ فجدد السيد الأجل الأفضل أدام الله قدرته الرغبة إلى أمير المؤمنين في أن يكون ما ينصرف إلى مؤونة كل منهم والقيام بأوده، وإعانته على ما هو بسبيله وبصدده: من عينٍ وغلة، مطلقاً من ديوانه، واسترفد أمير المؤمنين المثوبة في ذلك فأجابه جرياً على عادة إحسانه، واستقرت التقدمة في هذه المدرسة لك أيها الفقيه الرشيد جمال الفقهاء أبو الطاهر: لنفاذك واطلاعك، وقوتك في الفقه واستضلاعك، ولأنك الصدر في علوم الشريعة، والحال منها في المنزلة الرفيعة، والمشتغل الذي اجتمع له الأصول والفروع، ومن إذا اختلف في المسائل والنوازل كان إليه فيها الرجوع؛ هذا مع ما أنت عليه من الورع والتقى، وأن مجاريك لا يكون إلا ناكصاً على عقبه مخفقاً؛ وأمر أمير المؤمنين أن تدرس علوم الشريعة للراغبين، وتعلم ما علمك الله إياه لمن يريد ذلك من المؤثرين والطالبين؛ وخرج أمره بكتب هذا المنشور بذلك شداً لأزرك، وتقويةً لأمرك ورفعاً لذكرك؛ فأخلص في طاعة الله سراً وجهراً، فإنه تعالى يقول في كتابه: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ ويُعْظِمْ لَهُ أجْراً}، واعتمد توزيع المطلق عليهم، وتقسيمه فيهم على حسب ما يؤدي اجتهادك إليه، ويوقفك نظرك عليه، وقرب ن ارتضيت طريقته، وأبعد من أنكرت قضيته؛ فقد وكل ذلك إليك، وعدق بك من غير اعتراضٍ فيه عليك؛ فمن قرأه أو قرئ عليه من الأمير المظفر والقاضي المكين- أدام الله تأييدهما- وكافة الحماة والمتصرفين، والعمال والمستخدمين، فليعتمد رعاية المدرسة المذكورة ومن احتوت عليه من الطلبة وإعزازهم، والاشتمال عليهم، والاهتمام بمصالحهم، والتوخي على منافعهم، وليتل هذا المنشور على الكافة بالمسجد الجامع، وليخلد بهذه المدرسة حجةً بما تضمنه، إن شاء الله عز وجل.
ومن ذلك سجل بولاية الحسبة من إنشاء القاضي الفاضل، وهي: من شكرت خلائقه، وتهذبت طرائقه، وأمنت فيما يتولاه بوائقه، ونيطت بعرى الصواب علائقه، وفرجت بسداده مسالك الإشكال ومضايقه، واستحوى من الأمانة قريناً في التصرفات يرافقه ولا يفارقه، ونهض إلى الاستحقاق ولم تعقه دونه عوائقه، وأثنى عليه لسان الاختبار وهو صحيح القول صادقه- استوجب أن يخص من كل قول بأجمله، وأن يعان على نيل رجائه وبلوغ أمله، وأن يقتدح زند نيته ليرى نور عمله، وتيسر إلى النجاح متوعرات طرقه ومشكلات سبله، وأن يقابل جريانه في الولاية قبله فيظهر عليه أثر الإحسان فيكون الشكر من قبل الإحسان لا من قبله، ويورد من موارد النجح ما يتكفل له بالري من غلله، ويوسم من مياسم الاصطناع ما يكون حلية أوصاله ويشفع سداد خلاله في سد خلله.
ولما كنت أيها الشيخ المشتمل على ما تقدم ذكره، المستكمل من الوصف ما يجب شكره، الآوي إلى حرزٍ من الصيانة حريز، المستغني بغنائه عن الاستظهار بعزوة العزيز، المستوجب إلى أن يعد من أهل التمييز لأنه من أهل التمييز، المستوعب من الخلال الجميلة ما لا يقتضيه القول الوجيز، المخرج من قضايا الدنايا فما يستبيح محرمها ولا يستجيز، الممدح في خدمٍ كلها أخلصته خلاص الذهب الإبريز، وكانت له مضماراً تشهد له أفعاله فيها بالسبق والتبريز، المتوسل بأمانة عزبها جنابه عن الشبهة ووجدانها في الناس عزيز- تقدم فتى مولانا السيد الأجل باستخدام على الحسبة بمدينة كذا: فباشر أمرها مباشرة من يبذل في التقوى جهداً، فلا يرى غيرها على ظمإٍ ورداً، ولا يراه الله حيث نهاه، ولا يأمره أبداً ولا ينهاه إلا نهاه، ولا يرى ما كشفته إلا وهو عالمٌ أن الله يراه، وانته فيها إلى ما ينتهي إليه من بذل غاية وسعد، ومن لا يرتد عن جرركيه من عموم نفعه، ومن يدل بتهذيب طباع الناس على طهارة طبعه، ومن يستجزل حسن صنيع الله لديه بحسن صنعه، ومن يستدعي منه بذل فضله بحظر ما أمر بحظره ومنعه، واسلك فيما تستعمله من أمرها المذهب القصد والمنهج الأقوم، واجتهد فيها اجتهاد معتصمٍ بحبل التقوى المتين وسببها المبرم، وامنع أن يخلو رجل بامرأة ليست بذات محرم، واستوضح أحوال المطاعم والمشارب، وقوم كل من يخرج في شيءٍ منها عن السنن الواجب، وعير المكاييل والموازين فهي آلات معاملات الناس، واجتهد في سلامتك من الآثام بسلامتها من الإلباس والأدناس، وحذر أن تحمل دابة ما لا تطيق حمله، وأدب من يجري إلى ذلك يتوخى فعله، وأوعز بتنظيف الجوامع والمساجد لتنير بالنظافة مسالكها، كما تنير بالإضاءة حوالكها؛ ففي ذلك إظهارٌ لبهجتها وجمالها، وإيثارٌ لصيانتها عن إخلاق نضرتها وابتذالها؛ ولا تمكن أحداً أن يحضرها إلا لصلاةٍ أو ذكر، قاطعاً للسان الخصام وموقظاً لعين الفكر؛ فأما من يجعلها سوقاً للتجارة، فقد حصل بهذه الجسارة على الخسارة، فهي ميادين الضمر، وموازين الرجح في الظاهر من أعمالهم والمضمر، وما أحق لياليها أن تقوم بها الهجد لا السمر، وهل أذن الله أن ترفع لغير اسمه أو تعمر؛ واحظر أن يحضر الطرقات ما يمنع السلوك أو يوعره، وافعل في هذا الأمر ما يردع العابث ويزجره، وخذ النصارى واليهود والمخالفين بلبس الغيار وشد الزنار، ففي ذلك إظهار لما في الإسلام من العزة وفي المخالفة من الصغار، وإبانةٌ باشد للتأهب للمسير إلى النار، وتفريق بين المؤمنين والكفار، وأدب من يكيل مطففاً، أو يزن متحيفاً، أدباً يكون لمعاملته مزيفاً، وله من معاودة على فعله زاجراً ومخوفاً؛ فاعلم هذا واعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن المكتتب عن الوزير لأرباب الوظائف الديوانية سجلٌ بمشارفة الجوالي بالصعيد الأدنى والأشمونين، وهي: من حسنت آثاره فيما يتولاه، واستعمل من الاجتهاد ما يدل على معرفته بقدر ما تولاه، كان اعتماده بما يؤكد سببه وينجح قصده ويبسط يده، ويرهف حده فيما يضمن مصالح خدمته، وينظم أمرها في سلك إيثاره وبغيته.
ولما كنت أيها الأمير لما ندبت إلى مشارفة الجوالي بالصعيد الأدنى والأشمونين قد أبنت عن الخبرة والدراية، والأمانة والكفاية، والانتصاب للاستخراج والجباية، والاجتهاد في الوفاء بما كتبت به خطك، والحرص على ما يجزل نصيبك من جميل الرأي وقسطك- تقدم فتى مولانا وسيدنا بكتب هذا المنشور مضمناً شكرك وإحمادك؛ ومودعاً ما يبلغك في الخدمة بغيتك ومرادك، وتجديد نظرك وتقوية يدك، وإعزاز جانبك، وتوخيك بما يشرح صدرك، ويشد أزرك، ويرفع موضعك ويزيح عللك، ويقيم هيبتك ويفسح مجالك، ويبلغك آمالك؛ فاجر على رسمك في هذه المشارفة واستمر على عادة دؤوبك، واجعل التقرب بالنصيحة غاية مطلوبك، وواصل الانتصاب لاستخراج مال هذه الجوالي واستنضاضه واستيفائه واستنظافه، وتماد في ذلك على سنتك الحميدة، وطريقتك السديدة، وثق بأن ذلك يسفر لك عن بلوغ أراجيك، ويضاعف سهمك من حسن الرأي فيك؛ فليعتمد الأميران معاضدة المذكور ومؤازرته، وإعانته ومظافرته، وإجابة ندائه، وتلبية دعائه، والشد منه في استخراج البواقي مع المال الحاضر: ليجد السبيل إلى الوفاء بما شرطه على نفسه، وكتب خطه به؛ والمبالغة في ذلك مبالغةٌ يعود نفعها على الديوان، ويشهد لهما ببذل الطاقة والإمكان؛ فليعلم ذلك وليعمل به، إن شاء الله عز وجل.
ومن ذلك سجل باستيفاء الأعمال القبلية، وهو: من كرم أصله ومحتده، وحسن في الولاء ظاهره ومعتقده، ولقن المخالصة عن الماضين من أسلافه، ولزم في المناصحة منهجاً لم يعدل عنه إلى خلافه، وتنقل في جلائل الخدم بكثرة الثناء عليه والتعديد لأوصافه، وكان في كل ما يباشره على قضيةٍ تشهد بفضله، وتدل من محاسن الخلال على ما لا يجتمع إلا في مثله؛ على أنه قليل النظراء والأكفاء، كلفٌ بالاقتداء بمكارم الأفعال والاتباع لها والاقتفاء- استوجب أن يرفع مكانه ومحله، واستحق أن يحمل من أعباء المهمات ما لا ينهض به إلا مثله، وصلح أن يجعل لما يراعي أمره سهماً من نظره فيه، وأن يبرز من توليته إياه في ملبس جمال يسبغه حسن التدبير عليه ويضفيه.
ولما كنت أيها الشريف، تاج الخلافة، عضد الملك، صنيعة أمير المؤمنين، من جلة آل أبي طالب، والموفوري الحظ من المآثر والمناقب، ولك مع نسبك الشريف ميزة بيتك في الدولة العلوية- خلد الله ملكها- وتقدمه، واستقرارك بنجوة من السناء لا يضايقه أحدٌ من طبقتك فيها ولا يزحمه؛ وقد توليت أموراً جليلةً فكنت عليها القوي الأمين، وأهلت لمنازل سنية فأوضحت لك الأثر الحسن وأظهرت منك الجوهر الثمين؛ ولم تنتقل قط من شيء تتولاه، إلى غيره مما تستحفظه وتستكفاه، إلا كان الأولعليك يتلهف، والثاني إليك يتطلع ونحوك يتشوف؛ وما برحت ملتمساً من الرتب الخطيرة مخطوباً: لأن الأسباب التي غدت في غيرك متشتتة متفرقة، قد ألفيت عندك مجتمعةً متألفة متسقة؛ فلك النزاهة السابقة بك كل من يجاريك، والوجاهة الرافعة قدرك على من يناويك؛ والأمانة التي يشهد لك بها من لا يجاريك، والوجاهة الرافعة قدرك على من يناويك؛ والأمانة التي يشهد لك بها من لا يحابيك، والديانة التي حزتها عن الشريف عضد الدولة أبيك- تقدم فتى مولانا وسيدنا بالتعويل عليك في تولي ديوان الاستيفاء على الأعمال القبلية وما جمع إليه، الذي هو من أجل الدواوين قدراً، وأنبهها ذكراً، وأرفعها شاناً، وأشمخها مكاناً؛ وخرج أمره بكتب هذا التقليد لك؛ فباشر ذلك متقياً لله تعالى فيه، جارياً على مراقبة عادتك التي تزلف فاعلها وتحظيه؛ فالله تعالى يقول إرشاداً لعباده وتفهيماً: {يا أيها الَّذِينَ آمنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمَالَكُمْ ويَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عظِيماً}.
وتبتل إلى عمارة الأعمال، وتزجية الارتفاع واستخراج الأموال، واعتمد مواصلة الجد والتشمير، واعكف على الاجتهاد الذي يشهد لك بقلة الشبيه وعدم النظير، واستنظف البواقي من كل الجهات والأماكن، وكن على ضبط ما تستخرج وصونه أحفظ له من الخزائن، وانظر في أمر الكتاب نظر من يكشف عن جميع أسبابهم، ويعلم أنه المخاطب على خطئهم وصوابهم، وخذهم بملازمة الاشغال، والمواظبة على التنفيذ وعلى استيفاء الأعمال، ولا تسوغ لضامن ولا عامل أن يضجع في العمارة، ولا أن يماطل بها من ساعة إلى ساعة فإن فائت ذلك لا يلحق، وفارطه لا يدرك؛ وقد أزيحت علتك ببسط يدك وإنفاذ قولك وإمضاء حكمك؛ فتماد على سنتك واستمر على رسمك، واعلم هذا واعمل به، وطالع بما تحتاج إلى المطالعة بمثله، إن شاء الله تعالى.
سجل بمباشرة الأغنام والمطابخ.
لما كانت الأمانة كافلةً بالتنويه لأربابها، والكفاية سافرةً في التمييز لمن يتعلق بأسبابها، والخبرة خلةً لا يليق التصرف ولا يحسن إلا بها؛ وكنت أيها القاضي مشهور النفاذ والمعرفة، خليقاً إذا ذكر المرشحون للمهمات بأجمل صفة؛ وقد علمت نباهتك، واستقرت نزاهتك، وحسن فيما تتولاه أثرك، وطاب فيما تباشره خبرك. وحين عدقت بك الخدم فيما يستدعى ويبتاع من الأغنام برسم المطابخ السعيدة وما ينفق ويطلق منها، متصرفاً في ذلك بين يدي المخلص السديد صفي الملك مأمون الدولة أبي الحسن: فرجٍ الحافظي أدام الله تأييده، فشكر سعيك، وأحمد قصدك، ورضي اجتهادك، واستوفق اعتمادك- تقدم فتى مولانا وسيدنا فلان بكتب هذا المنشور لك، مضمناً ما يقضي بشد أزرك، وشرح صدرك، وتقوية منتك، وإرهاف عزمك في خدمتك، واعتمادك بما يؤدي إلى استقامة الأمر فيما عدق بك، ومساعدتك ومعاضدتك ومعونتك في أسبابك، وتبليغك أقصى طلابك؛ والأميران يعتمدان رعايتك، والشد منك وإعانتك، والمحافظة على مصالح أمرك والتلبية لدعوتك، وتوفير حظك من الملاحظة لشؤونك. فلتعلم هذا ولتعمل به، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة منشور بمشارفة المواريث الحشرية، والفروض الحكمية، وهي: منشورٌ تقدم بكتبه فتى مولانا وسيدنا الأجل الأفضل لك أيها القاضي الرشيد، سديد الدولة، أبو الفتوح محمد بن القاضي السعيد عين الدولة أبي محمد عبد الله بن أبي عقيل- أدام الله عزك- لما اشتهرت كفايتك اشتهار الشمس، وأمنت أمانتك دخول الشبهة واللبس، وسلكت مذهب أسلافك في العفاف والنزاهة وظلف النفس، وظلت آثارك فيما تتولاه شاهدة بديانتك، وأفعالك فيما تستكفاه معربةً عن نباهتك، وسيرتك فيما تتكلفه منتهيةً بك إلى أقصى أمد الاحتياط مفضية، وقد أضحى سبيل تقديمك معبداً مذللاً، وغدوت لما يناسب كريم بيتك مرشحاً مؤهلاً؛ وإنما إبقاؤك على ما بيدك لتكمل إصلاحه وتهذيبه، وتتمم تثقيفه وترتيبه؛ ولذلك كتب هذا المنشور مقصوراً على إقرارك على ما أنت متوليه من الخدمة في مشارفة المواريث الحشرية، وتقرير الفروض الحكمية؛ فاجر على رسمك وعادتك، واستمر على منهج في بذل استطاعتك، والزم المعهود منك فإنه مغنٍ عن الاستزادة، وتماد على ما أتيت فيه على البغية والإرادة، واكتف بما تضمنته التذكرة الديوانية المعمولة لهذه الخدمة، وحافظ من الاجتهاد على ما يجدد لك كل وقت ملبس نعمة؛ فاعلم هذا واعمل به، ولينسخ هذا المنشور بحيث ينسخ مثله، إن شاء الله تعالى.
ومن ذلك نسخة منشور بعمالة، وهي:
عندما وصفت به من اجتهاد ومناصحة، وأمانةٍ ليس فيها مساهلةٌ ولا مسامحة، ومخالصةٍ استمررت فيها القضية المستقيمة الواضحة، وكفايةٍ تمسكت منها بالسبب الوثيق وحصلت على الصفقة الرابحة، ومعاملةٍ تحريت فيها نهج من حبب إليه الأعمال الصالحة، وكفايةٍ إذا باشرت الدهمة الكالحة أبدلتها بالغرة الواضحة، وسمعةٍ ما برحت الألسن لذخائر ثنائها مبيحةً ولسرائر أسبابها بائحة، وإنك إذا أهلت لخدمة جعلتها لشكرك لساناً، ولكتاب كفايتك عنواناً؛ ومن كان بها ملماً إذا رأتك دواءه كان مستعاراً بك أحياناً؛ فاعتمد في هذه الخدمة ما يحقق بك ظناً، ويقيم لك وزناً، ويشد بك ركناً، ويضاعف لديك مناً، وينيلك من الإحسان ما تتمنى، ويسني لك من الزيادة والحسنى، ويتوكل في اقتضاء الحظ الجزيل الأسنى، واسترفع؟ الحسبانات التي ما يلزم رفعها، ويحفظ به شرط الكفاية ووضعها، واكشف ولا تبق ممكناً حتى تكشفه ثم استنطقه، وحاصل به أصله ثم تجمله، وحاقق الجهابذ على ما خرجت به البراآت، ورفعت به الختمات، ولا تخل وصولاً، من أن تكون بخطك موصولاً، واستخرج حقوق الديوان على ما مضت به مواضي سننه، وخذ من كل شيء في خدمتك بأحسنه، وأنزل نفسك من شؤون السنة بأمنع ظل وأحصنه، واحمل التجار والسفار على عوائد العدل وشرائطه، وقضايا الصون وحوائطه، وشواهد الديوان وضرائبه، ولا تتعد فيهم مألوف مطالبه، وانظر في الأملاك السلطانية نظراً يصلح معتلها، ويصحح مختلها، ويوفر أجرها، ويزجي غيرها؛ وكذلك الأحباس والأحكار والمواريث: فحافظ على حفظ استغلالها، وكف كف من يرى باستباحة أمر الحرمة واستحلالها؛ وقد وردت لك من الديوان تذكرة فاهتد بمنظومها، واقتد بمرسومها؛ ولك من الآراء ما يشحذ عزمك، وينفذ حكمك، ويسني موردك، ويعلي يدك، ويمثل الرعاية فيك، ويقيم على أن تكفي الديوان بما يكفيك؛ والسلام.